حضر، فإن إبراهيم عليه السلام إنما أراد بقوله: ربي الذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع ان يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن ان يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود اخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي والمجازي فإن الاحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: انا أحيي وأميت، ولبس الامر على الحاضرين فصدقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيم عليه السلام ان يبين له وجه المغالطة، وانه لم يرد بالاحياء والإماتة هذا المعنى المجازي، وان الحجة لا تعارض الحجة، ولو كان في وسعه عليه السلام ذلك لبينه، ولم يكن ذلك إلا لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى حجة أخرى لا يدع المكابر ان يعارضه بشئ فقال إبراهيم عليه السلام: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أن الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصته عليه السلام لكنها وما يلحق وجودها من الافعال كالطلوع والغروب مما يستند بالآخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الأرباب، والفاعل الإرادي إذا اختار فعلا بالإرادة كان له ان يختار خلافه كما اختار نفسه فإن الامر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لما قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه ان يقول: إن هذا الامر المستمر الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائما أمر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه ان يقول:
إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، ولا كان يسعه ان يقول: إني انا الذي آتيها من المشرق وإلا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجرا وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.