من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، وبعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله وما عمله (والعمل في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، ويعده ملكا جائز التصرف لشخصه، والعقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.
لكنه لما كان لا يسعه ان يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، واستقر ذلك بأن يعمل الانسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، وهذا أصل المعاملة والمعاوضة.
غير أن التبائن التام بين الأموال والأمتعة من حيث النوع، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الاكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلا لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض.
فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار، وكان الأصل في وضعه: انهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه بقية الأمتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية افراده كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل شئ من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض.
ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للأشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه، وعند ذلك تعينت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلا ان القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبين بذلك ان القيراط من الألماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا وعلى هذا القياس.
ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.