بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، ولو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل أحد لم يجهلها الأكثرون، وانما جهلها من جهلها، وأنكرها من أنكرها من جهتين:
الأولى: ان الانسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده ولا يغيب عنه، يتكلم عن الحال ويغفل عن المستقبل، ويحسب دولة يوم دولة، ويعد غلبة ساعة غلبة، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه، وهو المحيط بالزمان والمكان، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيوم على كل شئ إذا حكم حكم فصلا، وإذا قضى قضى حقا، والأولى، والعقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، ولا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) ان يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمه، فيظن الجاهل ان الامر أعجزه تعالى وان الله سبحانه مسبوق مغلوب (ساء ما يحكمون)، لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران - 196.
والثانية: ان غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات وقهرها ان تتسلط على الافعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، وبسط الكره والاجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقا، ويأسرون آخرين، ويفعلون ما يشاؤون بالتحكم والتهكم، وقد دل التجارب وحكم البرهان على أن الكره والقسر لا يدوم، وان سلطة الأجانب لا يستقر على الأمم الحية استقرارا مؤبدا، وإنما هي رهينة أيام قلائل.
وأما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، وبأن تربى أفرادا تعتقدها وتؤمن بها، فليس فوق الايمان التام درجة ولا كإحكامه حصن، فإذا استقر الايمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا وإن استخفى يوما أو برهة، ولذلك نجد ان الدول المعظمة والمجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر مما تعتني بشأن العدة والقوة