شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٢٠ - الصفحة ١١٩
الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن، فدنا ابن الزبير فقبل رأسها، وقال:
هذا والله رأيي الذي قمت به داعيا إلى يومى هذا، وما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، ولم يدعني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل محارمه (1)، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه، فإني مقتول من يومى هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمى لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يجر في حكم، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شئ آثر عندي من رضا ربى. اللهم إني لا أقول هذا تزكية منى لنفسي، أنت أعلم بي، ولكنني أقوله تعزية لأمي لتسلو عنى. فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا أن تقدمتني، فلا أخرج من الدنيا حتى أنظر إلى ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله يا أمه خيرا! فلا تدعى الدعاء لي قبل وبعد، قالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظما في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
قال أبو جعفر: وروى محمد بن عمر، عن موسى بن يعقوب بن عبد الله، عن عمه، قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها، فقالت هذا وداع فلا تبعد، فقال: نعم، إني جئت مودعا، إني لأرى إن هذا اليوم آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه إني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضره ما صنع به، فقالت صدقت يا بنى، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن

(1) الطبري: (أن يستحل حرمه).
(١١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 ... » »»
الفهرست