ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط، فسكنه الله عن الاضطراب، وآلفه الوحدة والانفراد، فلما نظرت إليك وتريدني خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى إلف المخلوقين: فإليك عنى فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب التائبين. ثم صاح:
وا غماه من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عنى، ثم نفض يده، وقال: إليك عنى يا دنيا، لغيري فتزيني، وأهلك فغري! ثم قال: سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان، والحور الحسان، فإني في الخلوة آنس بذكر الله، وأستلذ بالانقطاع إلى الله، ثم أنشد:
وإني لأستغشي وما بي نعسة * لعل خيالا منك يلقى خياليا (1) وأخرج من بين البيوت لعلني * أحدث عنك النفس في السر خاليا.
وقال بعض العلماء: إنما يستوحش الانسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة، فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس، ويطرد الوحشة عن نفسه بهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة، ويستخرج العلم والحكمة، وكان يقال: الاستئناس بالناس من علامات الافلاس.
* * * ومنها التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الانسان لها غالبا بالمخالطة، وهي الغيبة، والرياء، وترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وسرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من الغير.
أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون، فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه، والتنقل بلذة