قوله: " اضمحل في الجو متلفقها، وعفا في الأرض مخطها "، اضمحل ذهب، والميم زائدة، ومنه الضحل وهو الماء القليل، واضمحل السحاب: تقشع وذهب، وفى لغة الكلابيين اضمحل الشئ بتقديم الميم، ومتلفقها: مجتمعها، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو، والتلفيق:
الجمع: وعفا: درس، ومخطها: أثرها، كالخطة.
قوله: " وإنما كنت جارا جاوركم بدني أياما "، في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النفس، وأن هوية الانسان شئ غير هذا البدن.
وقوله: " ستعقبون منى " أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة، يعنى بدنا خلاء، أي لا روح فيه، بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوة وغير ذلك. ثم وصف تلك الجثة فقال: " ساكنة بعد حراك " بالفتح، أي بعد حركة وصامتة بعد نطق ". وهذا الكلام أيضا (1) يشعر بما قلناه من أمر النفس، بل يصرح بذلك، " ألا تراه قال: " ستعقبون منى جثة " أي تستبدلون بي جثة صفتها كذا! وتلك الجثة جثته عليه السلام، ومحال أن يكون العوض والمعوض عنه واحدا، فدل على أن هويته عليه السلام التي أعقبنا منها الجثة غير الجثة.
قوله: " ليعظكم هدوي "، أي سكوني، وخفوت إطراقي، مثله خفت خفوتا سكن، وخفت خفاتا مات فجأة. وإطراقه: إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض، لضعفه عن رفع جفنه، وسكون أطرافه: يداه ورجلاه ورأسه عليه السلام.
قال: " فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ، والقول المسموع "، وصدق عليه السلام! فإن خطبا أخرس ذلك اللسان، وهد تلك القوى لخطب جليل، ويجب أن يتعظ العقلاء به. وما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال، بل بالإضافة إلى من سمعها، وأفكر فيها، فضلا عن مشاهدتها عيانا! وفى هذا الكلام شبه من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال أحدهم: حركنا بسكونه.