لأنه لما قال: " ما لم تشردوا " أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية وأن يدوموا عليه، وهذا في الظاهر تكليف أمور شاقة، فاستدرك بكلام يدل على التخفيف، فقال إن التكاليف على قدر المكلفين، فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة، وأرباب الجهل والمبادئ كالنساء وأهل البادية وطوائف من الناس، الغالب عليهم البلادة وقلة الفهم، كأقاصي الحبشة والترك ونحوهم، وهؤلاء عند المكلفين غير مكلفين، إلا بحمل التوحيد والعدل، بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور المفصلة وحل المشكلات الغامضة، وقد روى " حمل " على صيغة الماضي، و " مجهوده " بالنصب، " وخفف " على صيغة الماضي أيضا، ويكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره، والرواية الأولى أكثر وأليق.
ثم قال: " رب رحيم " أي ربكم رب رحيم. ودين قويم، أي مستقيم. وإمام عليم، يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن الناس من يجعل " رب رحيم " فاعل " خفف " على رواية من رواها فعلا ماضيا وليس بمستحسن لان عطف " الدين " عليه يقتضى أن يكون الدين أيضا مخففا، وهذا لا يصح.
ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران.
ثم قسم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة، فقال: أنا بالأمس صاحبكم وأنا اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إنما كان عبرة لهم لأنهم يرونه بين أيديهم ملقى صريعا بعد أن صرع الابطال، وقتل الاقران، فهو كما قال الشاعر:
أكال أشلاء الفوارس بالقنا * أضحى بهن وشلوه مأكول ويقال: دحضت قدم فلان، أي زلت وزلقت.
ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهاب الرياح وظلال الغمام، لان ذلك كله سريع الانقضاء لاثبات له.