أريد عسفان فما زلت كذلك حتى دخلت مكة فأقمت بها أياما أطوف البيت واعتكفت فبينا أنا ليلة في الطواف إذا أنا بفتى حسن الوجه، طيب الرائحة، يتبختر في مشيته طائف حول البيت فحس قلبي به فقمت نحوه فحككته، فقال لي من أين الرجل؟ فقلت: من أهل العراق؟ قلت: من الأهواز، فقال لي: تعرف بها الخصيب؟ فقلت: رحمه الله، دعي فأجاب، فقال: رحمه الله، فما كان أطول ليلته وأكثر تبتله وأغزر دمعته، أفتعرف علي بن إبراهيم بن المازيار؟
فقلت: أنا علي بن إبراهيم فقال: حياك الله أبا الحسن ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام؟ فقلت: معي قال: أخرجها، فأدخلت يدي في جيبي فاستخرجتها، فلما أن رآها لم يتمالك أن تغرغرت عيناه بالدموع وبكى منتحبا حتى بل أطماره، ثم قال: أذن لك الآن يا بن مازيار صر إلى رحلك وكن على أهبة من أمرك، حتى إذا لبس الليل جلبابه، وغمر الناس ظلامه، سر إلى شعب بني عامر فإنك ستلقاني هناك فسرت إلى منزلي فلما أن أحسست بالوقت أصلحت رحلي وقدمت راحلتي وعكمته شديدا، وحملت وصرت في متنه وأقبلت مجدا في السير حتى وردت الشعب فإذا أنا بالفتى قائم ينادي يا أبا الحسن إلي فما زلت نحوه فلما قربت بدأني بالسلام وقال لي سر بنا يا أخ فما زال يحدثني وأحدثه حتى تخرقنا جبال عرفات، وسرنا إلى جبال منى وانفجر الفجر الأول ونحن قد توسطنا جبال الطائف فلما أن كان هناك أمرني بالنزول وقال لي: انزل فصل صلاة الليل فصليت، وأمرني بالوتر فأوترت، وكانت فائدة منه، ثم أمرني بالسجود والتعقيب، ثم فرغ من صلاته وركب، وأمرني بالركوب، وسار وسرت معه حتى علا ذروة الطائف، فقال: هل ترى شيئا؟
قلت: نعم أرى كثيب رمل عليه بيت شعر يتوقد البيت نورا، فلما أن رأيته طابت نفسي، فقال لي: هناك الامل والرجاء، ثم قال: سر بنا يا أخ فسار وسرت بمسيره إلى أن انحدر من الذروة وسار في أسفله، فقال: انزل فها هنا يذل كل صعب، ويخضع كل جبار، ثم قال: خل عن زمام الناقة، قلت فعلى من أخلفها؟ فقال: حرم القائم عليه السلام لا يدخله إلا مؤمن ولا يخرج منه إلا مؤمن، فخليت من زمام راحلتي، وسار وسرت معه إلى أن دنا من باب الخباء فسبقني بالدخول، وأمرني أن أقف حتى يخرج إلي، ثم قال لي: ادخل هناك السلامة، فدخلت فإذا أنا به جالس قد اتشح ببردة واتزر بأخرى وقد كسر بردته على عاتقه وهو كأقحوانة أرجوان قد تكاثف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى، وإذا هو كغصن بان أو قضيب ريحان، سمح سخي تقي نقي، ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق، بل مربوع القامة، مدور الهامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، أقنى الانف، سهل الخدين، على خده الأيمن خال كأنه فتات مسك على رضراضة عنبر، فلما أن رأيته بدرته بالسلام، فرد علي أحسن ما سلمت عليه، وشافهني وسألني عن أهل العراق، فقلت سيدي قد ألبسوا جلباب الذلة، وهم بين القوم أذلاء فقال لي يا بن المازيار لتملكونهم كما ملكوكم وهم يومئذ أذلاء، فقلت: سيدي لقد بعد الوطن وطال المطلب، فقال: يا بن المازيار أبي أبو محمد عهد إلي أن لا أجاور قوما غضب