وأمير مطاع وقائد على كل طائفة منهم، فانظر كيف ابتدأ الامر من حاجة القوت والمسكن والملبس وإلى ماذا انتهى؟.
وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح منها بسببه عشرة أبواب أخر، وهكذا يتناهى إلى حد غير محصور، وكأنها هاوية لا نهاية لعمقها، ومن وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى وهكذا على التوالي.
فهذه هي الحرف والصناعات، ويتفرع عليها أيضا بناء الحوانيت والخانات للمتحرفة والتجار وجماعة يتجرون ويحملون الأمتعة من بلد إلى بلد، ويتفرع عليها الكراية والإجارة، ثم يحدث بسبب البيوع والإجارات وأمثالها الحاجة إلى النقدين لنقع المعاملة بهما، فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير، فحدثت الحاجة إلى دار الضرب وإلى الصيارفة.
فهذه أشغال الخلق وهي معايشهم، وشئ من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء، وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى عاجزا إلى أن يأكل مما سعى فيه غيره، فتحدث منه حرفتان خسيستان: اللصوصية والكدية، وللصوص أنواع ولهم حيل شتى في ذلك وأما التكدي فله أسباب مختلفة، فمنهم من يطلب ذلك بالتمسخر والمحاكاة الشعبذة والافعال المضحكة، وقد يكون بالاشعار مع النغمة أو غيرها في المدح أو التعشق أو غيرهما، أو تسليم ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات والطلسمات وكأصحاب القرعة والفأل والزجر من المنجمين، ويدخل في هذا الجنس الوعاظ المتكدون على رؤوس المنابر.
فهذه هي اشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوه، ولكن نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآلهم فضلوا وتاهوا، وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أإن كدرها زحمة اشغال الدنيا خيالات فاسدة، وانقسمت مذاهبهم، واختلفت آراؤهم على عدة أوجه.