محبته ودرجة مودته، نعم في حال البعد والفراق يظهر صدق دعوى المحبة والاشتياق.
(يا عيسى لا يصلح لسانان في فم واحد) نهى في المعنى أن يكون أحد ذا لسانين مثل أن يمدح أخاه شاهدا ويعيبه غايبا وأن يتكلم في السر غير ما يتكلم به في العلانية وأن يقول عند قوم غير ما يقول عند آخرين وأن يلقى كلا من الصديقين غير ما يلقى به الآخر ليفرق بينهما وأن يتردد بين العدوين ليغري بينهما العداوة ويشدها وأن يرى كل واحد من الخصمين أنه معه وأمثال ذلك وهذه من خصال المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «من لقى المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسان من نار».
(ولا قلبان في صدر واحد) بأن يميل مثلا إلى المؤمنين وإلى المنافقين وأن يحب الله ورسوله ويحب الدنيا (وكذلك الأذهان) أي لا ذهنان في قلب واحد والذهن الفهم والعقل وقوة للنفس معدة للإدراك فيمتنع أن يتوجه إلى إدراك الآخرة وتحصيل الزاد لها وإدراك أمور الدنيا وكيفية تحصيلها وضبطها، وبالجملة هذه الأشياء في الإنسان واحدة فينبغي صرفها إلى ما كلفت به وإلى أمر الآخرة وميلها عن كل ما ينافيها.
(يا عيسى لا تستيقظن عاصيا ولا تستنبهن لاهيا) في المصباح: رجل يقظ بكسر القاف: فطن متنبه للأمور، واليقظة محركة: خلاف النوم، ورجل نبيه: شريف، والنهي راجع إلى القيد، ولعل المقصود النهي عن العصيان في حال الاستيقاظ ومعرفة الأمور والعلم بصحيحها وفاسدها وعن اللهو في حال النباهة والشرف فإن العصيان من الفطن العارف واللهو من النبيه الشريف أقبح وأشنع كما دل عليه صريح بعض الروايات.
(وأفطم نفسك عن الشهوات الموبقات) أي المهلكات يقال فطمت المرضع الرضيعة من باب ضرب فطما إذا فصلته عن الرضاع فهي فاطمة والصغير فطيم وفطمت الحبل أي قطعته ومنه فطمت الرجل عن عادته إذا منعته عنها وفي الكلام استعارة تمثيلية (وكل شهوة تباعدك مني فاهجرها) أما الشهوة التي لا توجب البعد مثل الضروريات في التناسل والبقاء والعبادة فالهجر منها غير مطلوب شرعا بل قد يجب تحصيلها وتعد من العبادة (واعلم أنك مني بمكان الرسول الأمين) في كنز اللغة: أمين «كسى كه برا واعتماد باشد واز أو أيمن باشند وبى ترس شده».
(فكن مني على حذر) من العقوبة أمر بذلك لأن الأمين قد يصير خائنا بجرائم النفس ووساوس الشيطان (واعلم أن دنياك مؤديتك إلي) نسبة التأدية إلى الدنيا مجاز باعتبار أن العمر ينقطع وينتهي بمرور الأيام (وإني آخذك بعلمي) بأحوالك ظاهرا وباطنا فقد يخطر في السر ما لا يعلم أحد غيره تعالى وهو يؤخذ عليه ويحاسب به، وفيه تنبيه على وجوب الاستقامة في جميع الأحوال لئلا تتوجه إليه الخيانة والنكال (وكن ذليل النفس عند ذكري) باللسان والجنان، والذل مترتب على العلم بالاحتياج إليه من جميع الجهات فإنه يوجب ذل النفس وسلب العز عنها، ويتبعه الخشوع في القلب والصوت والبصر وسائر الجوارح فلذلك قال: (خاشع القلب حين تذكرني) خص خشوع القلب بالذكر لأنه إذا خشع خشعت الجوارح كلها كما دل عليه بعض الروايات