نفسها وكأنه على الأخير من باب التمثيل لأن أحدنا إذا أرسل هدية إلى صديقه فمتى رآها الصديق يذكرها ويذكر صاحبها وفي الإفاضة إشعار بإكثار الحسنات (وتمسك بوصيتي فإن فيها شفاء للقلوب) من أمراض الجهل ورذائل الأخلاق ووساوس الشيطان.
(يا عيسى لا تأمن إذا مكرت مكري) مكر مكرا من باب قتل خدع فهو ماكر وأمكر بالألف لغة ومكر الله وأمكر جازى على المكر وسمي الجزاء مكرا كما سمى جزاء السيئة سيئة مجازا على سبيل مقابلة اللفظ باللفظ (ولا تنس عند خلوات الدنيا ذكري) لما كان أعظم المطالب الدينية ذكر الله تعالى أمر به مرارا مبالغة فيه وهو من أعمال الصالحين، قال الله تعالى في مدحهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وفي الذكر جلاء للقلوب وأنس بالله وهو ثمرة محبته فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره والغرض من جميع العبادات هو الذكر قال الله تعالى (أقم الصلاة لذكري) وبالجملة كل عقد وقول وفعل يقصد به الله تعالى فهو ذكره.
(يا عيسى حاسب نفسك بالرجوع إلي) حساب النفس متوقف على الرجوع إلى الله تعالى لأن حسابها عبارة عن ملاحظة طاعتها ومعصيتها له فينبغي أن يعرف كل أحد أنه يرجع إلى الله تعالى وأنه تعالى يثيبه إن أطاع ويعاقبه إن عصى فإذا حصلت له هذه المعرفة اشتغل بنفسه ويحاسبها في كل يوم وفي كل ساعة فينظر إلى خواطرها وأفعالها وقيامها وقعودها وحركاتها وسكناتها وجميع أعمالها الظاهرة والباطنة على سبيل التفصيل فما كان منها موافقا لإرادة الله تعالى دام عليه وشكر وما كان مخالفا لإرادته فر منه واستغفر وما كان من المباحات رفضه فرارا عما لا ينفعه في الآخرة فإذا دام على ذلك حصلت له ملكة الانقطاع إلى الطاعة والنفرة عن المعصية.
ثم أشار إلى غاية حساب النفس وفائدته ترغيبا فيه بقوله: (حتى تتنجز ثواب ما عمله العاملون) استنجز حاجته ويستنجزها: استظفر بها أي تجد ثوابه يوم القيامة عند البعث منجزا بلا تأخير ولا توقيف للحساب لأنك أديت حسابك في الدنيا، أو تجد ثوابه به منجزا في الدنيا وهو السعادة الروحانية الأبدية التي هي قرب الحق وفيضه آنا فآنا وهو عند العارفين أعظم من الثواب الجسماني والله أعلم.
(أولئك يؤتون أجرهم) كاملا بل أضعافا مضاعفة (وأنا خير المؤتين) إذ لا نقص في إعطائه ولا خوف في نفاد ما عنده به.
(يا عيسى كنت خلقا بكلامي) الظاهر أن كلمة «كن» وهي إظهار للتسخير والقدرة على إيجاد كل فرد كذلك بل بلا أم أيضا كآدم وإنما خلقهم على النحو المعهود ليحصل بينهم التعارف بالنسب والقبايل والقرابة والرحمة والرأفة والرقة والاشفاق ونحوها من الفوائد المعلومة وغيرها ومع هذا التناسب تحقق بينهم العداوة والنفرة وانتفت الرحمة والرأفة فكيف إذا كان كل منفردا في الخلقة،