إلى ما يوجب الدخول فيها من المعاصي ولذات الدنيا، واحتمال إرادة الدنيا بعيد (وبئس القرار دار الظالمين) لأن أثاثها لهبات ونزلها كربات وحاصلها حسرات وجيرانها حيات وعذابها شديد وماؤها صديد.
(إني أحذرك نفسك) لأنها أمارة بالسوء تورد صاحبها موارد العصيان ومواضع الخذلان فتجب مراقبتها في جميع الأوقات ومحافظتها عن التوغل في المشتهيات وأخذ زمامها بيد الورع والتقوى وصرف عنانها إلى الشريعة البيضاء.
(فكن بي خبيرا) أمره بأن يكون عالما عارفا بالله وما أمر به وأوصى بحفظه وما نهاه عنه ومنع من فعله فإن ذلك أصل الإيمان ورأس مال الإنسان به يرتقي إلى المقامات العلية والسعادات الأبدية.
(يا عيسى كن حيث ما كنت مراقبا لي) مراقبته تعالى محافظة القلب له ومراعاته إياه في السر والعلانية وهي ثمرة العلم بأنه تعالى مطلع على الضمائر والسرائر والبواطن والظواهر وهذا العلم إذا استقر في القلب يجذبه إلى مراعاته ومراقبته في جميع الأحوال وثمرته التعظيم والإجلال واستغراق القلب بملاحظة الكبرياء والجلال وانكساره تحت الهيبة والعظمة والكمال وترك الالتفات إلى المباحات فضلا عن المحظورات وحفظ جميع حركاته وسكناته ولحظاته عن كل طور قبيح وأمر شنيع خوفا منه تعالى وتعظيما له وتحرزا من فضيحة يوم القيامة وصرف الظواهر إلى الأعمال الخالصة والأفعال الصالحة وركوب الطريقة الغر أو لزوم المحجة البيضاء وهكذا يراقب ويراعي حتى ينتقل من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية ويفوز بقرب الحق ويتخلص من ألم الفراق وهو غاية المراد من الكمال. اللهم اجعل الصبر عطية نجاتنا والمراقبة لك عدة وفاتنا.
(واشهد على أني خلقتك وأنك عبدي وأني صورتك) فيه تنبيه على ذكر هذه النعمة وهي خلقه إياه ولم يك شيئا، تفضلا، وتصويره بصورة حسنة تكريما وعلى الإقرار بالعبودية المتوقفة على الإتيان بالعبادات في غاية الخضوع ونهاية التضرع والتذلل وعلى ترك مخالفته في أمر من الأمور وعلى المراقبة له والانقطاع عن الغير فإن العاقل إذا تفكر في أول خلقه إلى كمال قوته وفي كيفية انقلاباته من حال إلى حال وتحولاته من طور إلى طور وفي خواص قواه وأعضائه الظاهرة والباطنة التي يعجز عن إدراك نبذة منها عقول الأذكياء حصل له معرفة تامة بالخالق المصور المنعم وبعظمته وقدرته وحكمته وهي مقتضية لمراقبته والرجوع إليه والتوسل به في جميع الأمور وقطع تعلقه بالغير (وإلى الأرض أهبطتك) بإهباط أبيه آدم أو إهباط روحه والغرض من الإهباط هو التكليف والامتحان والاختبار وفيه تنبيه على نفاذ أمره وجريان حكمه على عبده فكما أهبطه بلا تقصير منه من مقام المقربين إلى الأرض كذلك يهبطه مع التقصير إلى أسفل السافلين وتذكير له بموطنه الأولي ومسكنه الأصلي ليرجع إليه بقدم الاشتياق ويتخلص من ألم الفراق ويظهر مرتبة محبته ودرجة