قوله (عليه السلام) «نزل بالحزن» أنه اشتمل على أحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب وأحوال الأمم الماضية وإهلاكهم ومسخهم وغير ذلك مما يتطاير عند سماعه قلوب العارفين، والمراد بالحزن إما ضد السرور، أو رقة القلب، وبالصوت الحزين صوت يوجب الحزن وإن اشتمل على نغمة دون الغناء فلا بأس وإنما أمر بذلك لأنه يوجب للنفس خشية وخشوعا وحسن موقع وميل إلى الآخرة ويؤثر في نفوس السامعين.
(يا عيسى لا خير في لذاذة لا تدوم وعيش من صاحبه يزول) لذا الشيء يلذ من باب علم لذا ولذاذة بالفتح: صار شهيا فهو لذيذ، والمراد أن لذات الدنيا وعيشها وهو الحياة والطعام وكل ما يعاش به لا خير فيهما لزوالهما وعدم دوامهما فلا ينبغي ميل العاقل إليهما وربط قلبه بهما وإن فرض عدم ضررهما بأمر الآخرة.
(يا ابن مريم لو رأت عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين) مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (ذاب قلبك) هذا كالمثل يقول كل من اشتاق شيئا وكمل إليه ميله ولم ينله ذاب قلبي (وزهقت نفسك شوقا إليه) أي خرجت تقول زهقت نفسه من باب علم زهقا وزهوقا إذا أخرجت، وأزهقها الله تعالى أخرجها (فليس كدار الآخرة دار تجاور فيها الطيبين) المقصود نفي التشبيه أي ليست دار شبيهة بدار الآخرة لعدم التناسب والتشابه بينهما، وفيه زجر عن دار الدنيا وترغيب في دار الآخرة بأنها دار تجاور فيها الطيبين - أو الطيبون على اختلاف النسخ - والمراد بهم الفاضلون الطاهرون من أرجاس السيئات وأخباث الأخلاق المنزهون عن الرذائل المتصفون بأنواع الفضائل (ويدخل عليهم الملائكة المقربون) كما نطق به القرآن الكريم ودل على بعض تفاصيله حديث الجنان والنوق المذكور سابقا (وهم مما يأتي يوم القيامة من أهوالها آمنون) لرفضهم في الدنيا عن نفوسهم القدسية أسباب تلك الأهوال وتوجهوا بحسن الاستعداد إلى ذلك اليوم، وضمير التأنيث للقيامة أو ليومها باعتبار المضاف إليها (ولا يتغير فيها النعيم) بطول الزمان لكونه في حفظ قدرته تعالى، ويدفع الاستبعاد حكاية عزيز (عليه السلام) (ولا يزول عن أهلها) لبقائها أبدا، والغرض من ذكر هذه الدار وجملة من أوصافها هو الترغيب في تحصيل ما يوجب الدخول فيها.
(يا ابن مريم نافس فيها مع المتنافسين) الأمر بالمنافسة في تلك الدار أمر بالمنافسة فيما يوجب الدخول فيها (فإنها أمنية المتمنين) وهم الصالحون في الدنيا أو أهل المحشر فإن كلهم يومئذ يتمنونها (حسنة المنظر) أي الصورة والهيئة لاشتمالها على كل ما له مدخل في حسنها وكمالها من الحور والقصور والأشجار والأنهار وغيرها، والمنظر والمنظرة ما نظرت إليه فأعجبك لحسنه.
(طوبى لك يا ابن مريم إن كنت لها من العاملين) تقديم الظرف للحصر بالنسبة إلى العاملين للدنيا (مع آبائك آدم وإبراهيم في جنات النعيم) الظرف حال عن اسم «كنت» وفيه دلالة