من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله أمر تعالى بالانفاق مطلقا عن الوقت ولان النفقة قد وجبت والأصل ان ما وجب على الانسان لا يسقط الا بالايصال أو بالابراء كسائر الواجبات ولأنها وجبت عوضا لوجوبها بمقابلة المتعة فبقيت في الذمة من غير قضاء كالمهر والدليل عليه ان الزوج يجبر على تسليم النفقة ويحبس عليها والصلة لا تحتمل الحبس والجبر ولنا ان هذه النفقة تجرى مجرى الصلة وإن كانت تشبه الاعواض لكنها ليست بعوض حقيقة لأنها لو كانت عوضا حقيقة فاما إن كانت عوضا عن نفس المتعة وهي الاستمتاع واما إن كانت عوضا عن ملك المتعة وهي الاختصاص بها لا سبيل إلى الأول لان الزوج ملك متعتها بالعقد فكان هو بالاستمتاع متصرفا في ملك نفسه باستيفاء منافع مملوكة له ومن تصرف في ملك نفسه لا يلزمه عوض لغيره ولا وجه للثاني لان ملك المتعة قد قوبل بعوض مرة فلا يقابل بعوض آخر فخلت النفقة عن معوض فلا يكون عوضا حقيقة بل كانت صله ولذلك سماها الله تعالى رزقا بقوله عز وجل وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف والرزق اسم للصلة كرزق القاضي والصلات لا تملك بأنفسها بل بقرينة تنضم إليها وهي القبض كما في الهبة أو قضاء القاضي لان القاضي له ولاية الالزام في الجملة أو التراضي لأن ولاية الانسان على نفسه أقوى من ولاية القاضي عليه بخلاف المهر لأنه أوجب بمقابلة ملك المتعة فكان عوضا مطلقا فلا يسقط بمضي الزمان كسائر الديون المطلقة ولا حجة له في الآيتين لان فيهما وجوب النفقة لابقاؤها واجبة لأنهما لا يتعرضان للوقت فلو ثبت البقاء إنما يثبت باستصحاب الحال وانه لا يصلح لالزام الخصم وأما قوله إن الأصل فيما وجب على إنسان لا يسقط الا بالايصال أو الابراء فنقول هذا حكم الواجب مطلقا لا حكم الواجب على طريق الصلة بل حكمه انه يسقط بمضي الزمان كنفقة الأقارب وأجرة المسكن وقد خرج الجواب عن قوله إنها وجبت عوضا وأما الجبر والحبس فالصلة تحتمل ذلك في الجملة فإنه يجبر على نفقة الأقارب ويحبس بها وإن كانت صلة وكذا من أوصى بان يوهب عبده من فلان بعد موته فمات الموصى فامتنع الوارث من تنفيذ الهبة في العبد يجبر عليه ويحبس بأنه وإن كانت الهبة صلة فدل ان الجبر والحبس لا ينفيان معنى الصلة وعلى هذا يخرج ما إذا استدانت على الزوج قبل الفرض أو التراضي فأنفقت انها لا ترجع بذلك على الزوج بل تكون متطوعة في الانفاق سواء كان الزوج غائبا أو حاضرا لأنها لم تصر دينا في ذمة الزوج لعدم شرط صيرورتها دينا في ذمته فكانت الاستدانة الزام الدين الزوج بغير أمره وأمر من له ولاية الامر فلم يصح وكذا إذا أنفقت من مال نفسها لما قلنا وكذا لو أبرأت زوجها من النفقة قبل فرض القاضي والتراضي لا يصح الابراء لأنه ابراء عما ليس بواجب والابراء اسقاط واسقاط ما ليس بواجب ممتنع وكذا لو صالحت زوجها على نفقة وذلك لا يكفيها ثم طلبت من القاضي ما يكفيها فان القاضي يفرض لها ما يكفيها لأنها حطت ما ليس بواجب والحط قبل الوجوب باطل كالابراء والله أعلم وأما الثاني فلوجوب الفرض على القاضي وجوازه منه شرطان أحدهما طلب المرأة الفرض منه لأنه إنما يفرض النفقة على الزوج حقا لها فلابد من الطلب من صاحب الحق والثاني حضرة الزوج حتى لو كان الزوج غائبا فطلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها عليه نفقة لم يفرض وإن كان القاضي عالما بالزوجية وهذا قول أبي حنيفة الآخر وهو قول شريح وقد كان أبو حنيفة أولا يقول وهو قول إبراهيم النخعي ان هذا ليس بشرط ويفرض القاضي النفقة على الغائب وحجة هذا القول ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهند امرأة أبي سفيان خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف وذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان فرضا للنفقة على أبي سفيان وكان غائبا وحجة القول الأخير ان الفرض من القاضي على الغائب قضاء عليه وقد صح من أصلنا ان القضاء على الغائب لا يجوز الا أن يكون عنه خصم حاضر ولم يوجد وأما الحديث فلا حجة له فيه لان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال لهند على سبيل الفتوى لا على طريق القضاء بدليل انه لم يقدر لها ما تأخذه من مال أبي سفيان وفرض النفقة من القاضي تقديرها فإذا لم تقدر لم تكن فرضا فلم تكن قضاء تحقيقه ان من يجوز القضاء على الغائب فإنما يجوزه إذا كان غائبا
(٢٦)