شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ١١٤
أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود.
هذا هو نص ما قاله ابن القيم، ولكن ما نطقت به كتب السنة وشروح الحديث والفقه وغيرها من عيون التراث الإسلامي لتدل على خلاف ذلك، إذ جمعت هذه الكتب بين دفتيها تراثا علميا لغير هؤلاء الأربعة الذين ذكرهم ابن القيم كعلي عمر وأبي وعائشة وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم من الصحابة الذين كان لهم باع طويل في العلم والفتيا في العهد النبوي وبعده.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: إذا كان علي كثير العلم والفتيا فأين فتاواه وأحكامه إذن؟
في الحقيقة أن فقه علي وفتاواه وأقضيته لم ترو في كتب السنة بالقدر الذي يتفق مع مدة خلافته ولا مع المدة التي كان منصرفا فيها إلى الدرس والإفتاء في مدة الراشدين قبله، وقد كانت حياته كلها للفقه وعلم الدين، وكان أكثر الصحابة اتصالا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رافق الرسول وهو صب ى قبل أن يبعث عليه السلام، واستمر معه إلى أن قبض الله تعالى رسوله إليه، ولذا كان يجب أن يذكر له في كتب السنة أضعاف ما هو مذكور فيها.
هذا ولقد عزا ابن القيم قلة مرويات علي إلى تزيد بعض الشيعة عليه، فهاهو ذا يقول: وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله بن مسعودكعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم.
بيد أن الإمام أبا زهرة أوضح أن قلة المروي عن علي ترجع إلى محاربة الحكم الأموي لكل آثاره العلمية، وفي هذا يقول ما نصه: وإذا كان لنا أن نعرف السبب الذي من أجله اختفى عن جمهور المسلمين بعض مرويات علي وفقهه، فإنا نقول: إنه لا بد أن يكون الحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار علي في القضاء والإفتاء لأنه ليس من المعقول أن يلعنون عليا فوق المنابر، وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه، وينقلون فتاويه وأقواله للناس وخصوصا ما كان يتصل منها بأساس الحكم الإسلامي. والعراق الذي عاش فيه علي رضي الله عنه وفيه انبثق علمه كان يحكمه في صدر الدولة الأموية ووسطها حكام غلاظ شداد لا يمكن أن يتركوا آراء علي تسري في وسط الجماهير الإسلامية، وهم الذين يخلقون الريب والشكوك حوله، حتى إنهم يتخذون من تكنية النبي صلى الله عليه وسلم له بأبي تراب ذريعة لتنقيصه، وهو رضي الله عنه كان يطرب لهذه الكنية ويستريح لسماعها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قالها في محبة كمحبة الوالد لولده.
وفي نظري إن عدم انتشار أحكام علي وفتاويه يمكن أن نرجعها إلى السببين المذكورين معا، فالسبب الأول وهو تزيد بعض الشيعة عليه نستطيع أن نفهمه من قول علي نفسه رضي الله عنه: إن ههنا علما لو أصبت له حملته.
بيد أن هذا الترديد من غلاة الشيعة، لا يمكن أن يكون من رجال البيت الكريم الذي اشتهر رجاله بالصدق في القول والعمل والإخلاص في كل شؤون دينهم، إذ لا يتصور كما يقول أبو زهرة أن يكون التزيد من الحسين أو علي زين العابدين أو الباقر أو الصادق أو من غيرهم من أئمة الهدى الذين يقتدى بهم في علم الدين والتقى والمحافظة على تراث الإسلام حتى يصل إلى الناس نقيا غير مشوب بأي شائبة.
هذا عن السبب الأول، أما السبب الثاني وهو محاربة الحكم الأموي لعلي فهذا أيضا ليس ببعيد والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ومن أبرز الأمثلة التي توضح لنا ذلك أن الحسن البصري رضي الله عنه كان يحدث بالأحاديث النبوية، فإذا حدث عن علي بن أبي طالب لم يذكره خشية من بطش الحجاج، وفي هذا يقول يونس بن عبيد: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد، إنك تقول قال رسول الله وإنك لم تدركه؟ قال: با ابن أخي، لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى وكان في عمل الحجاج كل شئ سمعتني أقول قال رسول الله فهو عن علي بن أبي طالب غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا.
وعلى الرغم من ذلك فإنه يمكننا في رأيي أن نخرج موسوعة فقهية ضخمة للإمام علي كرم الله وجهه، وذلك من خلال البحث والتنقيب في كتب التراث المختلفة وعيون المصادر الإسلامية الأولى، وبخاصة كتب الفقه والآثار والسنن واختلاف الفقهاء وشروح الحديث وغيرها.
أضف إلى ذلك، أن البيت العلوي فيه علم الرواية كاملة عن علي رضي الله عنه حيث رووا عنه ما رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو قريبا من الكمال، ذلك لأن عليا استشهد وترك وراءه من ذريته أبرارا أطهارا كانوا أئمة في علم الإسلام، وكانوا ممن يقتدى بهم، ترك ولديه من فاطمة الحسن والحسين، وترك رواد الفكر محمد بن الحنفية، فأودعهم رضي الله عنه ذلك العلم، وقام أولئك الأبناء بالمحافظة على تراث أبيهم الفكري وهو إمام الهدى فحفظوه من الضياع، وقد انتقل معهم إلى المدينة لما انتقلوا إليها بعد استشهاده رضي الله عنه.
هذا، وبعد أن وقفنا فيما سبق على أهلية علي للاجتهاد وأوضحنا إنه كان واحدا من المبرزين في القضاء والفتوى، فلعله من المفيد هنا أن أسوق في مسألة تعد من شهيرات فتاواه وهي مسألة الزبية، وذلك حتى يتضح لك مدى إدراكه لروح التشريع ومقاصده.
تعد مسألة الزبية من المسائل التي أقر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عليا وأصلها أنه قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا، ثم جذب الثاني ثالثا فجذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد جميعا، فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين علي وكان قاضيا على اليمن، فقضى للأول بربع الدية وللثاني بثلثها وللثالث بنصفها وللرابع بكاملها، وقال: اجعل الدية على من حضر رأس البئر فسخط بعضهم من ذلك الحكم، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجازه.