شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ١١٤
أما في الأمصار، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عددا من الصحابة للقضاء في منازعات الناس، ومن أشهر هؤلاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، إذ بعثه إلى اليمن قاضيا، ثم صرفه حين حجة الوداع، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن:
القضاء كما يقضي علي، أو أقضى أمتي علي، أو أقضاكم علي.
ومنهم الفاضل المعاصر أحمد حسن الباقوري المصري في " علي إمام الأئمة " (ص 0 3 ط دار مصر للطباعة) قال:
لقد كان يروي العامة والخاصة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي.
ومنهم العلامة الشيخ نور الدين علي بن محمد بن سلطان المشتهر بالملا علي القاري المتوفى سنة 1014 في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " (ص 61 ط دار الكتب العلمية - بيروت) قال:
حديث: أقضاكم علي.
ومنهم الفاضل المعاصر أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول في " موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف " (ج 2 ص 101 ط عالم التراث للطباعة والنشر - بيروت) قال:
أقضى أمتي علي بن أبي طالب (1). فتح 8 / 167

(١) قال الدكتور محمد عبد الرحيم محمد في " المدخل إلى فقه الإمام علي رضي الله عنه " (ص ١٩ ط دار الحديث - القاهرة):
لقد أجمع المؤرخون والباحثون على أن عليا كان من شيوخ التشريع وأعلامه في عصر الصحابة، ولذا فقد وضعه أصحاب الطبقات في مقدمة فقهاء الصحابة.
ومما يدل على أن عليا كان ذا قدم راسخة في الاجتهاد والفتيا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله واحدا من القضاة في عهده إذ بعثه إلى اليمن قاضيا ومعلما ودعا له، فقد صح عن علي أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا شاب، فقلت: يا رسول الله إنك تبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء؟ فقال:
انطلق فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك.
كما كان ينصحه أيضا، فقد صح عنه أنه قال له: يا علي إذا جلس إليك الخصمان لا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إن فعلت ذلك تبدي لك وجه القضاء.
هذا ولقد التزم علي بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم فكان القاضي المجتهد الذي لا يشق غباره، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح له بأن يقضي في حضوره، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع جماعة من أصحابه فجاءه خصمان فقال أحدهما: يا رسول الله إن لي حمارا وإن لهذا بقرة، وإن بقرته قتلت حماري، فبدأ رجل من الحاضرين وقال: لا ضمان على البهائم. فقال صلى الله عليه وسلم: اقض بينهما يا علي، فحقق علي الواقعة فقال لهما: أكانا مرسلين، أم مشدودين، أم أحدهما مشدودا والآخر مرسلا؟ فقال: كان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة وصاحبها معها. فقال علي: صاحب البقرة ضامن الحمار، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم حكمه وأمضى قضاءه.
وكفى دليلا على أهليته للاجتهاد والفتيا شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله:
أقضاكم علي وقوله: أقضى أمتي علي.
أضف إلى ذلك شهادة الصحابة أنفسهم له بالعلم والفقه، فهو عند السيدة عائشة أعلم الناس بالسنة أو أعلم من بقي بالسنة، على حين جعله ابن مسعود أعلم أهل المدينة بالفرائض، بينما وصفه ابن عباس بقوله: والله لقد أعطي علي تسعة أعشار العلم وإنه لأعلمهم بالعشر الباقي.
ولعمر كلمات مشهورة طالما رددها كثيرا، وهي تعرب عن غاية احتياجه في العلم إلى علي، منها قوله: لولا علي لهلك عمر، وقوله: لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن، وقوله: أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها، وغير ذلك من هذه الكلمات المشهورة في هذا الصدد.
ومن ثم فقد كان عمر وغيره من الصحابة يستشيرونه ويأخذون برأيه في كثير من المسائل ذات الشأن، أو التي تشكل عليهم، وذلك كما هو معروف عنه من طول باعه وغزارة علمه في الفقه والحديث وبصره بروح التشريع ومقاصده، إذ روى الحسن أن عمر جمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليستشيرهم وفيهم علي، فقال له عمر:
قل فأنت أعلمهم وأفضلهم.
كذلك روي عن ابن عباس أنه قال: خطبنا عمر فقال: علي أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لنترك أشياء من قول أبي.
ولا عجب في ذلك ولا غرابة، فلقد كان علي أكثر الصحابة جميعا علما وذلك بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ روى أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة: أوما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما (إسلاما) وأكثرهم علما وأعظمهم حلما.
ولله دره مسروق، إذ فطن إلى هذه الحقيقة فقال: انتهى العلم إلى ثلاثة: عالم بالمدينة، وعالم بالشام، وعالم بالعراق، فعالم المدينة علي بن أبي طالب، وعالم العراق عبد الله بن مسعود، وعالم الشام أبو الدرداء، فإذا التقوا سأل عالم الشام وعالم العراق عالم المدينة ولم يسألهما.
ثم جاء عبد الملك بن أبي سليمان وزاد هذا المعنى وضوحا فقال: قلت لعطاء:
أكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أعلم من علي؟ قال: لا، والله ما أعلمه.
نتيجة لهذا وذاك كان علي واحدا ممن تصدى للفتيا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بل هو أحد السبعة المكثرين من الفتيا كما قال ابن القيم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلي رضي الله عنه قضايا ومسائل مشهورة ذكرت في مظانها من كتب الفقه والحديث والسير، أقر منها النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع منها في الزمن النبوي، وكم من قضية أفتى فيها الصحابة وخالفهم فيها علي، فرجعوا على الفور إلى رأيه إنصافا ووقوفا مع الحق، فضلا عن كثرة القضايا التي اجتهد فيها، فانفرد برأيه تارة وشاركه في بعضها صحابة آخرون تارة ثانية.
نعم لقد كان لعلي بن أبي طالب أثر كبير في الفقه الإسلامي من حيث: نموه وتكوينه ومنهجه وأسسه وما إلى ذلك من جوانب مختلفة تتصل بالتشريع الإسلامي.
ومن ثم فإننا لا نبالغ إذا قلنا بأن لعلي منزلة كبيرة عند الفقهاء جميعا سواء السني منهم أو الشيعي، وإن الناظر في آراء علي الفقهية التي اعتنقها أئمة المذاهب المختلفة لدليل كاف على صدق هذا القول.
ولعل كثرة فتاوى علي وأحكامه ترجع إلى أنه مكث نحوا من ثلاثين سنة بعد أن قبض الله تعالى رسوله إليه يفتي ويرشد ويوجه، وقد كان غواصا طالبا للحقائق، وقد أقام في الكوفة نحو خمس سنوات ولا بد أنه ترك فيها فتاوى وأقضية، وكان فيها المنفرد بالتوجيه والإرشاد، وإنه قد عرف بغزارة في العلم وعمق، وانصراف إلى الإفتاء في مدة الخلفاء قبله، والمشاركة في كل الأمور العميقة التي تحتاج إلى فحص وتقليب من كل وجوهها مع تمحيص وقوة استنباط.
إذن على ضوء هذا فإن ما ذهب إليه ابن القيم تعوزه الدقة العلمية، إذ ادعى أن العلم انحصر في أربعة من الصحابة هم ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد فقال: والدين والفقه انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد الله به عمر وأصحاب عبد الله بن عباس فعلم الناس عامة إلى هؤلاء الأربعة، فأما أهل المدينة فعلمهم عن زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن
(١١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 109 110 111 112 113 114 114 120 121 122 123 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686