خدمة ربه دون أن يثير حفيظة قومه أو يريبهم، فيفاجئهم شيئا فشيئا بسنن وتنظيمات تعدهم لما يسميه (الحنيفية) من دين جده إبراهيم، ومن حكمته - في تأتيه الفرصة وتحينها - أنه بدأ بنفسه فاجتنب الخمر على أنها رجس، ولم يحرج قومه بحملهم على اجتنابها، مكتفيا بهذه السلبية التي تقبح عادة من عاداتهم، وتسفه حلما من أحلامهم وتنزل من عقول عقلائهم منزل القدرة، ثم فارقهم في حقيقة دينهم كله بسلبية أخرى دون إكراه، وذهب إلى غار (حراء) يتحنث وينسك معتزلا آلهتهم متوجها إلى إلهه بصومه وعبادته، مكتفيا أيضا بسلبية تحقر الأوثان تحقيرا غير مباشر، وتشنع على الوثنية والوثنيين تشنيعا دوى في صدور الأحناف، ثم تجاوز حقل الدين إلى حقل الحياة بثورة أخرى على شكل آخر، فأهان (أسافا ونائلة) إلهي النحر والأضحيات، بحفره عندهما بئر زمزم، وقد تكلف بهذه الثورة بعض الجهد، واحتمل بعض المشقة، ولكنه انتصر، وأعلن من نصره هذا نصرين عظيمين على الخرافة والتقاليد. انتصر على (أساف ونائلة) باستخفافه بهما، وإعلانه ضعف خطرهما، وانتصر على عجز الإنسان باكتشافه ماء زمزم: هذه البئر التي لا تنزف أبدا ولا تذم. ثم كانت له آيات أحدثت في سور القوم المسحور كثيرا من الصدوع، وفتحت به كثيرا من الثغر، في جهاد صادق كان يصرع الأوهام في هذا البلد شيئا بعد شئ، ويؤلب عليها أهله، والأقرب من عشيرته وصديقه، فإذا جاء اليوم الخطير وجد طريقه ممهدا.
(٣٠)