الواقع إنها لموهبة في التأثير على الجماهير وضعت بيد عمر من حسن مواتاته للمناسبة بعض الزمام، فبهر الجمهور وبلبله وقطع عزائمه بما أضاع من رشده. وظل قائما عليه خطيبا لا يهدأ ولا يستريح حتى أقبل أبو بكر من (السنح) ورآه كما هو فلم يعارضه، بل أخذ طريقه هادئا وقورا إلى دار النبي، فاستأذن ودخل، وكشف عن وجه النبي فقبله ثم رد البرد على وجهه ونهض إلى الناس، فأومأ إلى عمر أن يسكت، ولكن عمر مستمر، ويقول له: على رسلك يا هذا، ولكنه يستمر، فلما رآه لا ينصت أخذ هو الآخر يتكلم، ويسمع الجمهور خطيبا آخر، فيلتفت إليه في حيرة وارتباك مستطلعا ما عنده وينصرف الناس عن عمر إلى صاحبه، فإذا أبو بكر يناقض صاحبه فيقول: (أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين).
كان هذا هو الكلام المقبول المعقول الملائم للواقع الذي عجب الناس كيف لم يقولوه من قبل، وزاد في قبوله وتعقله وواقعيته وحسن وقعه أنه جاء وادعا بعد عنف عمر، هادئا بعد صخبه، مريحا من قلقه الذي أربكهم وحيرهم، ومناهم من الشرور بمصاب كمصابهم بالنبي، وما يدرينا فلعل عمر لم يقصد إلى غير هذا، لعله أراد - مع الذي أراده من تأخيرهم