ثم قال: هاهنا مقدمة ينبغي أن تعلم؛ وهي أن أكثر الناس موتورون من الدنيا، أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون، نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا، ويرى جاهلا غيره مرزوقا وموسعا عليه.
وشجاع قد أبلى في الحرب، وانتفع بموضعه، ليس له عطاء يكفيه ويقوم بضروراته، ويرى غيره وهو جبان فشل، يفرق من ظله، مالكا لقطر عظيم من الدنيا، وقطعة وافرة من المال والرزق.
وعاقل سديد التدبير صحيح العقل، قد قدر عليه رزقه، وهو يرى غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات، وتتحلب عليه أخلاف الرزق.
وذي دين قويم، وعبادة حسنة، وإخلاص وتوحيد، وهو محروم ضيق الرزق ويرى غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال.
حتى إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق لها، وتدعوهم الضرورة إلى الذل لهم، والخضوع بين أيديهم، إما لدفع ضرر، أو لاستجلاب نفع.
ودون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضا ما نشاهده عيانا من نجار حاذق، أو بناء عالم، أو نقاش بارع، أو مصور لطيف، على غاية ما يكون من ضيق رزقهم، وقعود الوقت بهم، وقلة الحيلة لهم، ويرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم، ولا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا فيه، كثير المكسب، طيب العيش، واسع الرزق. فهذا حال ذوي الاستحقاق والاستعداد.
وأما الذين ليسوا من أهل الفضائل، كحشو العامة؛ فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدنيا والذم لها، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم