على الوالي غروره وطيشه، وغضب مدير شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا، فبادروا إليه فضربوه ضربا عنيفا حتى أغمي عليه، وقاموا من مجلسه وأطلقوا ألسنتهم بنقده، وذكر مثالب عثمان وسيئاته، وأخذوا يذيعون سيئات قريش وجرائم بني أمية، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بشأن القوم، فاجابه عثمان بان ينفيهم إلى الشام، وكتب في نفس الوقت رسالة إلى معاوية يأمره فيها باستصلاحهم.
ولم يرتكب هؤلاء الأحرار اثما أو فسادا، ولم يقترفوا جرما حتى يقابلوا بالاضطهاد والنفي، وانما نقدوا أميرهم لأنه قال غير الحق، وشذ عن الطريق القويم، وقد منح الاسلام الحرية التامة لنقد الحاكمين والمسؤولين إذا شذوا في سلوكهم، وجاروا على رعيتهم، وجعل هذه الحرية حقا ذاتيا لكل مواطن، والزم الدولة برعايتها وتوفيرها للناس.
وعلى أي حال فقد قامت السلطة باخراجهم بالعنف والقهر من أوطانهم وأرسلتهم إلى الشام فتلقاهم معاوية، وأمر بانزالهم في كنيسة، وأجرى لهم بعض الرزق، وجعل يناظرهم، ويعظهم، ويحبذ لهم مسالمة السلطة والرضا بسياستها إلا انهم لم يستجيبوا له، وأنكروا عليه ما قاله سعيد:
من أن السواد بستان لقريش، معلنين على أنه لا ميزة للقابل القرشية على غيرها حتى تختص بخيرات البلاد.
ولما يئس منهم معاوية كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه، فأعفاه عثمان، وأمره بردهم إلى الكوفة فلما عادوا إليها انطلقت ألسنتهم بالنقد في ذكر مثالب الأمويين ومساوئهم ورفع سعيد أمرهم إلى عثمان ثانيا فأمره بنفيهم عن وطنهم إلى حمص والجزيرة، فأخرجهم من وطنهم إلى حمص، فقابلهم واليها عبد الرحمان ابن خالد بأعنف القول وأقساه، وسامهم سوء العذاب وأمعن في ارهاقهم