الصفة أن يكون مستبصرنا أفضل من مستبصرهم إذ كان البرهان قد قطع عذرهم والبيان قد أزاح علتهم بقرعه أسماعهم صباحا ومساء ومشاهدتهم إياه بأبصارهم من غير تكلف منهم في طلبه، وذلك كله معدوم في عصرنا بل نشاهد من الجهل ونباشر من وجوه الباطل ما يضل فيه ذهن الحكيم ويطيش فيه قلب العليم ويذهل معه قلوبهم وتزول منه أفهامهم حتى يسعى المساعي منا دهرا طويلا يقطع المسافة البعيدة والبلدان النائية يتذلل للرجال ويخضع لكل صاحب مقال فإما أن يهلك ولم يدرك البغية وإما أن يمن الله عليه بالبصيرة بعد جهد جهيد وعناء شديد وتعب كديد بقية المستبصرين وحرب العارفين من أظهر ذلك الظالمين وكشفه المراعنين، فأي ظلم أم أي جور أبين من تفضيل أولئك بما وصفناه من حالهم وحالنا وجور من يوجب عذر أولئك فيما ارتكبوه دوننا، وكم بين من استبصر في دينه ببصيرة يزول معها كل شك ويثبت معها كل يقين من بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرسل وبرهان الكتاب المنزل وبين من استبصر في دينه بأخبار متضادة وأقاويل مختلفة وبيان غير شاف وبرهان غير كاف حتى يطلب ويميز وينظر ويعتبر ويختبر سهر ليله وضمان نهاره وتعب بدنه وتصاغر نفسه وتذلل قدره فهل هذا إلا جور من قائله وظلم ظاهر من موجبه حقيق على الله أن يوجب لمستبصري أهل هذا العصر بما وصفناه من أحوالهم، فلا يبعد الله إلا من ظلم وقال بما لا يعلم فإن قالوا إن الله عز وجل قال في كتابه (والسابقون السابقون أولئك المقربون) فقيل لهم قد قال الله ذلك وصدق عز وجل والأمر في ذلك بين واضح والحكمة فيه مستقيمة وذلك أن السابق فيه لا يجوز في الحكمة أن يقع في الإيمان إلا بين أهل العصر الحاضر أين الشاهدين لندب الداعي لهم إلى التسابق ومحال في الحكمة وفي العدل أن يسابق الله وبين قوم لم يخلقهم، هذا ظاهر الفساد بين من الرشادين المحال فظيع المقال لكنه سبحانه وتعالى سابق بين الحاضرين من أهل عصر الرسول
(٨٣)