إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ١٣٦
قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ذكره في كتاب الاعتصام (1).

(١) (فتح الباري): ١٣ / ٣١٢، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (٢)، الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما)، حديث رقم (٧٢٨٨).
قال الإمام النووي: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخله كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها.
وقال غيره: فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبته الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم عزم على عدم العود إذ لا يتصور منهما العود عادة، فلا معنى للعزم على عدمه.
* واستدل به على أن من أمر بشئ فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن [ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه]، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد.
فإن قيل: أن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ (لا يكلف الله إلا وسعها)، فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة، لا يدل على المدعي مع الاعتناء به، بل هو من جهة الكف، إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي.
وعبر الطوفي في هذا الموضوع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف، واستدل له بجواز أكل المصطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة.
وقال ابن فرج في (شرح الأربعين): قوله صلى الله عليه وسلم: " فاجتنبوه "، هو على إطلاقه، حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة، وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، كما نطق به القرآن.
والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبيح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه، وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه.
وادعى بعضهم أن قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي، أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار.
وزعم بعضهم أن قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، نسخ قوله تعالى: (فاتقوا الله حق تقاته). والصحيح أن لا نسخ، بل المراد بحق تقاته، امتثال أمره واجتناب نهية مع القدرة لا مع العجز.
واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل واجب والمندوب.
وأجيب بأن قوله تعالى: (فاجتنبوه)، يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجئ مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر.
وقال الفاكهاني: النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما.
واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه. وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به، لم يرد الأمر بمعني الطلب، وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن.
واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه، وقيل: يقتضيه، وقيل: يتوقف فيما زاد على مرة، وحديث الباب قد يتمسك به لذلك، لما في سببه أن السائل قال في الحج: أكل عام؟ فلو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يحسن السؤال ولا العناية بالجواب. وقد يقال: إنما سأل استظهارا أو احتياطا.
وقال المازري: يحتمل أن يقال: إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد التكرار، فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة، لا من صيغة الأمر. وقد تمسك به من قال بإيجاب العمرة، لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة، فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة.
* واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام لقوله صلى الله عليه وسلم: " لو قلت نعم لو وجبت "، وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحى إليه ذلك في الحال.
* واستدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة، حتى يثبت المنع من قبل الشارع.
* واستدل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك.
قال البغوي في (شرح السنة): المسائل على الوجهين:
أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز، بل مأمور به لقوله تعالى:
(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما.
ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث، والله أعلم، ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الأغلوطات "، قال الأوزاعي: هي شداد المسائل، وقال الأوزعي أيضا: " إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتم أقل الناس علما ".
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: " المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل "، وقال ابن العربي: " كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك، لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع "، قال: " وإنه لمكروه إن لم يكن حراما، إلا للعلماء، فأنهم فرعوا ومهدوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم.
وينبغي أن يكون محل لكراهية للعالم، إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله، والله المستعان.
* واستدل به على أن الاشتغال بالأهم المتاح إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه في الحال، فكأنه قال:
عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع.
فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله، ثم يجتهد في تفهم ذلك، والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العمليات، يتشاغل بتصديقه واعتقاد أحقيته، وإن كان من العمليات، بذل وسعه في القيام به فعلا وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعريف حكم ما سيقع على القصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عن سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع، وقد لا تقع، مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال. (المرجع السابق):
325 - 328.
(١٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 131 132 133 134 135 136 138 139 140 141 144 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396