(١) (فتح الباري): ١٣ / ٣١٠، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (٢) الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما)، حديث رقم (٧٢٨١).
قوله: " حدثنا أو سمعت "، القائل ذلك سعيد بن ميناء، والشاك هو سليم بن حيان، شك في أي الصيغتين قالها شيخه سعيد.
قوله: " جاءت ملائكة "، لم أقف على أسمائهم ولا أسماء بعضهم، ولكن في رواية سعيد بن أبي هلال المعلقة عقب هذا عن الترمذي أن الذي حضر بي هذه القضية جبريل وميكائيل، ولفظة: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، ومكائيل عند رجلي.. "، فيحتمل أنه كان مع كل منهما غيره. واقتصر في هذه الرواية على من باشر الكلام منهم ابتداءا وجوابا، ووقع في حديث ابن مسعود عند الترمذي، وحسنه وصححه ابن خزيمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توسد فخذه فرقد، وكان إذا نام نفخ، قال: فبينا أنا قاعد، إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائفة منهم عند رجليه.
قوله: " إن لصاحبكم هذا مثلا قال: فاضربوا له مثلا "، كذا للأكثر، وسقط لفظ " قال " من رواية أبي ذر.
قوله: " فقال بعضهم: إنه نائم.... إلى قوله: يقظان "، قال الرامهرمزي: هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال: رجل يقظ، إذا كان ذكي القلب، وفي حديث ابن مسعود، فقالوا بينهم: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا.
وفي رواية سعيد بن هلال: فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: " إسمع سمع أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ". ونحوه في حديث ربيعة الجرشي، عند الطبراني، زاد أحمد في حديث ابن مسعود، فقالوا: اضربوا له مثلا، ونؤول أو نضرب وأولوا، وفيه: ليعقل قلبك.
قوله: " مثله كمثل رجل بني دارا وجعل فيها مأدبة "، في حديث ابن مسعود: " مثل سيد بني قصرا "، وفي رواية أحمد: " بنيانا حصينا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجاب أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه - أو قال - عذبه ". وفي رواية أحمد " عذب عذابا شديدا.
والمأدبة بسكون الهمزة وضم الدال بعدها موحدة، وحكى بالفتح، وقال ابن التين: عن أبي عبد الملك الضم والفتح لغتان فصيحتان، وقال الرامهرمزي نحوه في حديث " القرآن مأدبة الله " قال:
وقال لي أبو موسى الحامض: من قاله بالضم أراد الوليمة، من قاله بالفتح أراد أدب الله الذي أدب به عباده. قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يتعين الضم.
قوله: " فبعث داعيا "، في رواية سعيد: " ثم بعث رسولا يدعوا الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه ".
قوله: " فقال بعضهم: أولوها بفقهها "، قيل: يؤخذ منه حجة لأهل التعبير، أن التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه. قال ابن بطال: قوله: " أولوها له " يدل على أن الرؤيا ما عبرت في النوم، أ. ه.
وفيه نظر لاحتمال الاختصاص بهذه القضية، لكون الرائي النبي صلى الله عليه وسلم، والمرئي الملائكة، فلا يطرد ذلك في حق غيرهم.
قوله: " فقالوا: الدار الجنة "، أي الممثل بها، زاد في رواية سعيد بن أبي هلال: " فالله هو الملك، والدار السلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول الله ". وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: " أما السيد فهو الله رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، ومحمد الداعي "، فمن اتبعه كان في الجنة.
قوله: " فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله "، أي لأنه رسول صاحب المأدبة، فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة، وهو كناية عن دخول الجنة، ووقع بيان ذلك في رواية سعيد، ولفظه: " وأنت يا محمد رسول الله، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها ".
قوله: " ومحمد فرق بين الناس "، كذا لأبي ذر بتشديد الراء فعلا ماضيا، ولغيره بسكون الراء والتنوين، وكلاهما متجه. قال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب، مع قطع النطر عن مطابقة المفردات من الطرفين. ا. ه.
وقد وقع في غير هذه الطريق ما يدل على المطابقة المذكورة، زاد في حديث ابن مسعود: " فلما استيقظ قال: سمعت ما قال هؤلاء، هل تدري من هم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هم الملائكة، والمثل الذي ضربوا: الرحمن بني الجنة ودعا إليها عباده " الحديث.
تنبيه: قال الحافظ في الفتح: تتقدم في كتاب المناقب من وجه آخر عن سليم بن حيان بهذا الإسناد، " قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الأنبياء كرجل بني دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة " الحديث. وهو حديث آخر، وتمثيل آخر، فالحديث الذي في المناقب - وهو الحديث رقم (3534) - يتعلق بالنبوة وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم التبيين. وهذا يتعلق بالدعاء إلى الإسلام، وبأحوال من أجاب أو امتنع، وقد وهم من خلطهما كأبي نعيم في (المستخرج)، فإنه لما ضاق عليه مخرج حديث الباب، ولم يجده مرويا عنده، أورد حديث اللبنة، ظنا منه أنهما حديث واحد، وليس كذلك لما بينته.
وسلم الإسماعيلي من ذلك، فإنه لما لم يجده في مروياته، أورده من روايته عن الفربري، بالإجازة عن البخاري بسنده، وقد روى يزيد بن هارون بهذا السند حديث اللبنة، أخرجه أبو الشيخ في (كتاب الأمثال)، من طريق أحمد بن سنان الواسطي عنه، وساق بهذا السند حديث " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا " الحديث، لكنه عن أبي هريرة لا عن جابر، وقد ذكر الرامهرمزي حديث الباب في (كتاب الأمثال) معلقا فقال: وروى يزيد بن هارون، فساق السند ولم يوصل سنده بيزيد، وأورد معناه من مرسل الضحاك بن مزاحم.
(1) زاد في رواية البخاري بعد قوله: " ومحمد فرق بين الناس "، تابعه قتيبة عن ليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال " عن جابر، خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم... ".
قوله: " تابعه قتيبة عن ليث "، يعني ابن سعد، " عن خالد "، يعني ابن بريد، وهو أبو عبد الرحيم المصري أحد الثقات.
قوله: " عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث، وظاهر أن بقية الحديث مثله، وقد بينت ما بينهما من الاختلاف، وقد وصله الترمذي عن قتيبة بهذا السند، ووصله أيضا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، وأبو نعيم من طريق أبي العباس السراج، كلاهما عن قتيبة، ونسب السراج في روايته الليث وشيخه كما ذكرته. قال الترمذي بعد تخريجه: هذا الحديث مرسل، سعيد بن هلال لم يدرك جابر بن عبد الله.
قال الحافظ ابن حجر: وفائدة إيراد البخاري له، رفع التوهم عمن يظن أن طريق سعيد بن ميناء موقوفة، لأنه لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بهذا الطريق لتصريحها، ثم قال الترمذي: وجاء من غير وجه عن النبي بإسناد أصح من هذا. قال: وفي الباب عن ابن مسعود، ثم ساقه بسنده وصححه، وقد بينت ما فيه أيضا بحمد الله تعالى. ووصف الترمذي له بأنه مرسل، يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني، فإنه بنحو سياقه وسنده جيد، وسعيد بن أبي هلال غير سعيد بن ميناء الذي في سند الأول، وكل منهما مدني، لكن ابن ميناء تابعي، بخلاف ابن أبي هلال.
والجمع بينهما إما بتعدد المرئي، وهو واضح، أو بأنه منام واحد، حفظ فيه بعض الرواه ما لم يحفظ غيره، وتقدم طريق جمع بين اقتصاره على جبريل وميكائيل في حديث، وذكره الملائكة بالصيغة الجمع في الجانبين الدال على على الكثرة في آخر، وظاهر رواية سعد بن هلال أن الرؤيا كان في البيت النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: " خرج علينا فقال: إني رأيت في المنام ".
وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان بعد أن خرج إلى الجن فقرأ عليهم، ثم أغفى عند الصبح فجاءوا إليه حينئذ، ويجمع بأن الرؤيا كانت على ما وصف ابن مسعود، فلما رجع إلى منزله خرج على أصحابه فقصها، وما عدا ذلك فليس بينها منافاة إذ وصف الملائكة برجال حسان، يشير إلى أنهم تشكلوا بصورة الرجال.
وقد أخرج أحمد والبزار والطبراني، من طريق علي بن زيد، عن يوسف مهران، عن ابن عباس، نحو أول حديث سعيد بن هلال، لكن لم يسم الملكين، وساق المثل على غير سياق من تقدم، قال:
" إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر، انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك، إذ أتاهم رجل فقال: أرأيتم إن وردت بك رياضا معشبة، وحياضا رواءا، أتتبعوني؟ قالوا: نعم، فانطلق بهم فأوردهم، فأكلوا، وشربوا، وسمنوا، فقال لهم: إن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة صدق، والله لنتبعه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا بهذا نقيم عليه ".
وهذا إن كان محفوظا قوي الحمل على التعدد، إما للمنام وإما لضرب المثل، ولكن علي بن زيد ضعيف من قبل حفظه. قال ابن العربي في حديث ابن مسعود: إن المقصود " المأدبة "، وهو ما يؤكل ويشرب، ففيه رد على الصوفية الذين يقولون: لا مطلوب في الجنة إلا الوصال، والحق أن لا وصال لنا إلا بانقضاء الشهوات الجسمانية والنفسانية والمحسوسة والمعقولة، وجماع ذلك كله في الجنة.
(ا. ه).
وليس ما ادعاه من المرد بواضح، قال: وفيه أن من أجاب الدعوة أكرم، ومن لم يجبها أهين، وهو بخلاف قولهم: من دعوناه فلم يجبنا فله الفضل علينا، فإن أجابنا فلنا الفضل عليه، فإنه مقبول في النظر، وأما حكم العبد مع المولى، فهو كما تضمنه هذا الحديث. (المرجع السابق): 317 - 320.