رائحة المسك من ذلك الرجل، فأنكروا رائحة المسك منه فسألوه فأخبرهم فقال: إن عندي رجلا من صفته كيت وكيت، فعرفوه وقصدوه مع الطحان وتقدم الطحان فدخل عليه وهم بالقبض عليه فعرف يزدجرد ذلك فقال له: ويحك خذ خاتمي وسواري ومنطقتي ودعني أذهب من ههنا، فقال لا، أعطني أربعة دراهم وأنا أطلقك، فزاده إحدى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم أخرى، فهم في ذلك إذ دهمهم الجند فلما أحاطوا به أرادوا قتله قال: ويحكم لا تقتلوني فإنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى الملك أو إلى العرب، فإنهم يستحيون من قتل الملوك، فأبوا عليه ذلك فسلبوه ما كان عليه من الحلي فجعلوه في جراب وخنقوه بوتر وألقوه في النهر فتعلق بعود فأخذه أسقف - واسمه إيليا - فحن عليه مما كان من أسلافه من الاحسان إلى النصارى الذين كانوا ببلادهم، فوضعه في تابوت ودفنه في ناووس، ثم حمل ما كان عليه من الحلي إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ففقد قرط من حليه فبعث إلى دهقان تلك البلاد فأغرمه ذلك. وكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وباقي ذلك هاربا من بلد إلى بلد، خوفا من الاسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الاطلاق، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " رواه البخاري. وثبت في الحديث الصحيح أنه لما جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق كل ممزق، فوقع الامر كذلك، وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة كان قد نقض أهلها ما كان لهم من الصلح، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحا، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف مائتي ألف، وقيل على ستة آلاف ألف ومائتي ألف. وفي هذه السنة حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وفيها غزا معاوية بلاد الروم حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - ومعه زوجته عاتكة، ويقال فاطمة (1) بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف. قاله أبو معشر والواقدي: وفيها استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على جيش وأمره أن يغزو الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، فسار حتى بلغ بلنجر فحصروها ونصب عليها المجانيق والعرادات. ثم إن أهل بلنجر خرجوا إليهم وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالا شديدا - وكانت الترك تهاب قتال المسلمين، ويظنون أنهم لا يموتون - حتى اجترأوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقوا معهم فاقتتلوا، فقتل يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النون (2) - وانهزم