وقال مالك بن أنس رحمه الله: (لقد أدركت بهذا البلد - يعني المدينة - مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة يحدثون، ما سمعت من واحدة منهم حديثا قط، قيل: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكونوا يعرفون ما يحدثون).
وقال يحيى بن سعيد القطان: (سالت مالك بن انس وسفيان الثوري وشعبة وابن عيينة عن الرجل لا يحفظ أو يتهم في الحديث وكلهم قال لي: بين امره) وقال سفيان الثوري: (لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ).
فهذه النصوص رغم ضئالتها تبرز لنا جانبا مشرقا من التحري المتناهي في رواية الحديث ونقد السند بأدق الطرق، اكتفينا باقتباس نماذج يسيرة رغم تكاثرها وتفرقها في بطون أمهات كتب علوم الحديث، اجتزاءا بالنزر اليسير حتى لا يطول الموضوع الذي لا يتحمل حشرها جميعا أو معظمها، وحدا حدو المحدثين بقية أئمة العلوم، كاللغة، والنحو، والاشعار، والتاريخ، والتفسير، والتراجم وما إلى ذلك من الفنون. فضلا عن أحكام الروايات المتواترة لكتاب الله العزيز التي نشأ عنها قراءات الشيوخ السبع، والعشر، ورواية تلاميذهم وطرق تلاميذ التلاميذ.
فلم يترك مالك وغيره عددا لا يستهان بهم من شيوخ المدينة لفسق أو كذب. وانما تركهم لكونهم ليسوا من أهل هذا الشأن. كما صرح هو وغيره من الأئمة الاعلام بالحث على تبيين جرح من لا يجوز الاخذ عنه.
وكان تحديد تاريخ ميلاد ووفاة المحدث امر يفزع إليه الجهابذة المشتغلون بعملي الجرح والتعديل لاختبار صدق الرواية ومقارنتها، وقد برعوا في ذلك أيما براعة تصل أحيانا إلى حد التطرف ابتغاء مرضاة الله وصونا لشريعته رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، وجزاهم على المحافظة على السنة أحسن الجزاء.