الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل قال أبو محمد: رحمه الله: ادعى قوم أن هذا أيضا نوع من أنواع الاجماع صحيح لا شك فيه. وقالوا: لأنه قد صح إلزام الله عز وجل لنا اتباع الاجماع والنص، وحرم علينا القول بلا برهان، فإذا اختلف الناس في شئ فأوجب قوم فيه مقدارا ما وذلك نحو النفقات والأروش والديات، وبعض الزكوات وما أشبه ذلك، وأوجب آخرون أكثر من ذلك المقدار فإنهم قد اتفقوا على وجوب اخراج المقدار الأقل كلهم بلا خلاف منهم، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فالاجماع فرض علينا أن نأخذ به. وأما الزيادة فدعوى من موجبها، إن أقام على وجوبها برهانا من النص أخذنا به والتزمناها، وإن لم يأت عليها بنص فقوله مطرح وهو مبطل عند الله عز وجل بيقين لا شك فيه، ونحن محقون في الاخذ بأقل ما قيل عند الله عز وجل بيقين، لأنه أمر مجتمع عليه والاتفاق من عند الله عز وجل، ولزوم ما اجتمع عليه فرض لا شك فيه، والاختلاف ليس من عند الله عز وجل قال الله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) *.
قال أبو محمد: كان يكون هذا حقا صحيحا لو أمكن ضبط أقوال جميع أهل الاسلام في كل عصر، وإذ لا سبيل إلى هذا فتكلفه عناء لا معنى له، ولا بد من ورود النص في كل حكم من أحكام الشريعة، لكن إذا ورد نص بإيجاب عمل ما فبأقل ما يقع عليه اسم فاعل لما أمر به، يسقط عنه الفرض، كمن أمر بصدقة، فبأي شئ تصدق، فقد أدى ما أمر به، ولا يلزمه زيادة، لأنها دعوى بلا نص ولا غاية لذلك فهو باطل. ولا سبيل إلى أن يكون الله تعالى حكم في الشريعة يلزمنا لم يجعل عليه دليلا من نص، وقال الله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * فما لم يكن في الكتاب فليس من الدين في شئ، وهو ساقط عنا بيقين، ومنهم من قال: بل نأخذ بأكثر ما قيل، لأنه لا يخرج من لزمه فرض عما لزمه إلا بيقين، ولا يقين إلا بعد أن يستوعب كل ما قيل.