سخيا يتهادى بين ابنيه فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني وأمره أن يركب.
ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إخلاف الوعد خصلة من خصال النفاق فوجدناهم لا حجة لهم فيه. أول ذلك الحنفيين والمالكيين المخالفين لنا في كثير من هذا الباب - مع عظيم تناقضهم في ذلك - مجمعون على أن من قال لآخر: لأهبن لك غدا دينارا، أو سأهبك اليوم هذا الثوب، وما أشبه هذا، فإنه لا يقضي عليه بشئ من ذلك عندهم، فهم أول تارك لما احتجوا به، وأما نحن فإننا رأينا الله عز وجل قد أسقط الحكم عمن وعد آخر أن يعطيه شيئا سماه، وأكد ذلك باليمين بالله تعالى: ثم لم يفعل، فلم يلزمه الله عز وجل إلا كفارة اليمين فقط، لا الوفاء بما وعد، ولم يجعل عليه في ذلك ملامة، ثم وجدنا الله تعالى يقول: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) *.
فصح بهذا أن من وعد وعدا ولم يقل إن شاء الله، فهو عاص لله عز وجل، مخالف لامره، وإذا كان قوله ذلك معصية لله تعالى فهو مردود غير نافذ. ثم إننا وجدناه إن وعد وقال: إن شاء الله، فقد استثنى مشيئة الله تعالى، وبالضرورة ندري أن كل ما شاء الله تعالى كونه فهو واقع لا محالة، قال الله عز وجل: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * وأن كل ما لم يكن فإن الله تعالى لم يشأ كونه، فإذا لم يفت هذا الواعد بما وعد ولو يوجبه إلا أن يشاءه الله تعالى، فقد أيقنا ضرورة أن الله تعالى لم يشأ كونه فلم يخالفه عقده، لأنه لم يوجبه إلا بمشيئة الله تعالى لم يشأها عز وجل.
فصح بهذا يقينا أن الوعد الذي يكون إخلافه خصلة من خصال النفاق، إنما هو الوعد بما افترض الله تعالى الوفاء به، وألزم فعله وأوجب كونه، كالديون الواجبة، والأمانات الواجب أداؤها، والحقوق المفترضة فقط، لا ما عدا ذلك، فإن هذه الوجوه قد أوجب الله تعالى الوعيد على العاصي في ترك أدائها، وأوقع الملامة على المانع منها، وأمر بأدائها، وإن كان عز وجل لم يرد كون ما لم يكن منها، ولا حجة لنا على الله تعالى، بل لله الحجة البالغة، فلو شاء الله لهداكم أجمعين.