قال أبو محمد: علي بن أحمد، وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني قال:
سمعت أحمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكري، ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة، وقد سأله سائل فقال له: ما المقدار الذي إذا بلغه المرء حل له أن يفتي؟ فقال له إذا عرف موضع المسألة في الكتاب الذي، يقرأ حل له أن يفتي. ثم أخبرني أحمد بن الليث الأنسري، أنه حمل إليه وإلى القاضي أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن واقد كتاب الاختلاف الأوسط لابن المنذر فلما طالعاه قالا له: هذا كتاب من لم يكن عنده في بيته لم يشم رائحة العلم، قال:
وزادني ابن واقد أن قال: ونحن ليس في بيوتنا، فلم نشم رائحة العلم.
قال أبو محمد: لم نأت بما ذكرنا احتجاجا لقولنا، ولكن إلزاما لهم ما يلتزمونه، فإن قول أكابر أهل بلادنا عندهم أثبت من العيان، وأولى بالطاعة مما رووا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
قد بينا صفة الطلب والمفتي والاجتهاد الذي نأمر به، ونصوب من فعله، وهو طلب الحكم في المسألة من نص القرآن، وصحيح الحديث، وطلب الناسخ من المنسوخ، وبناء الحديث بعضه مع بعض ومع القرآن، وبناء الآي بعضها مع بعض على ما بينا فيما سلف من كتابنا هذا ليس عليه غير هذا البتة، وإن طالع أقوال الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم عصرا عصرا، ففرض عليه أن ينظر من أقوال العلماء كلها نظرا واحدا، ويحكم فيها القرآن والسنة، فلأيها حكم اعتقده وأفتى به واطرح سائرها، وإن لم يجد شيئا مما بلغه منها، في نص القرآن ولا في نص السنة لم يحل له أن يأخذ بشئ منها بل عليه أن يأخذ بالنص وإن لم يبلغه أن قائلا قال به، لما قد بيناه في كلامنا في الاجماع من امتناع الإحاطة بأقوال العلماء السالفين، ومن قيام البرهان على أنه لا يخلو عصر من قائل الحق، فهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي يؤجر من فعله على كل حال، فإن وافق الحق عند الله عز وجل أجر أجرا ثانيا على الإصابة، فحصل له أجران، وإن لم يوافق لادراك الحق لم يأثم، وقد حصل له أجر الطلب للحق وإرادته كما قال الشاعر:
وما كل موصوف له الحق يهتدي ولا كل من أم الصوى يستبينها