فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، ولو أنهم بالصين لقوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل.
ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك، إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا القول في حفظ القرآن كله وتعليمه، ففرض على كل مسلم حفظ أم القرآن وقرآن ما، وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كل قرية أو مدينة أو حصن من يحفظ القرآن كله ويعلمه الناس ويقرئه إياهم، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءاته. فصح بكل ما ذكرنا أن النفار المذكور فرض على الجماعة كلها حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين.
وأما من قال: إنه ليس فرضا على الجماعة، لكنه فرض على بعضهم بغير أعيانهم، فنكتفي من إبطال قوله بأنه يحمل خطاب الله تعالى واقعا على لا أحد، لأنه إذا لم يعين تعالى من يخاطب، ولا خاطب الجميع، فلم يخاطب أحدا عز وجل عن ذلك، وفي هذا سقوط الفرض عن كل من لم يخاطب، فهو ساقط على كل أحد، إذ كل أحد لم يخاطب، وفي هذا بطلان الدين، وبالله تعالى التوفيق.
فالناس في ذلك على مراتب، فمن ارتفع فهمه عن فهمهم أغتام المجلوبين من بلاد العجم منذ قريب، وعن فهم أغتام العامة، فإنه لا يجزيه في ذلك ما يجزي من ذكرنا، لكن يجتهد هذا على حسب ما يطيق في البحث عما نابه من نص الكتاب والسنة ودلائلهما، ومن الاجماع ودلائله، ويلزم هذا إذا سأل الفقيه فأفتاه أن يقول له:
من أين قلت هذا؟ فيتعلم من ذلك مقدار ما انتهت إليه طاقته وبلغه فهمه. وأما المنتصبون لطلب الفقه، وهم النافرون للتفقه، الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم، المتأهبون لنذارة قومهم، ولتعلم المتعلم، وفتيا المستفتي، وربما للحكم بين الناس، ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، ومن أحكام القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ورتب النقل، وصفات النقلة، ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف، هذا فرضه اللازم له، فإن زاد إلى ذلك معرفة الاجماع