الاحكام - ابن حزم - ج ٥ - الصفحة ٦٩٥
وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم، ولا علمه بما علم بمبيح له أن يفتي فيما جهل، وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره، فلو لم يفت إلا من أحاط بجميع العلم. لما حل لاحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتي أصلا وهذا لا يقوله مسلم، وهو إبطال للدين، وكفر من قائله. وفي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم الامراء إلى البلاد، ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين، ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك، لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والاحكام بيان صحيح بأن العلماء، وإن فاتهم كثير من العلم، فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا.
وفي هذا الباب أيضا بيان جلي على أن من علم شيئا من الدين علما صحيحا فله أن يفتي به، وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك، ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثا قد فاته، لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث.
ومن لم يعلم الاحكام على الصفة التي ذكرنا قبل، لكن إنما أخذ المسائل تقليدا، فإنه لا يحل لمسلم أن يستفتيه، ولا يحل له أن يفتي بين اثنين، ولا يحل للامام أن يوليه قضاء ولا حكما أصلا، ولا يحل له إن قلد ذلك أن يحكم بين اثنين، وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يخطئ ويصيب، فليس خطأه بمانع من قبول صوابه، وبالله تعالى التوفيق، فلا يوجد مفت في الديانة وفي الطب أبدا، إلا أحد ثلاثة أناسي: إما عالم يفتي بما بلغه من النصوص بعد البحث والتقصي، كما يلزمه، فهذا مأجور أخطأ وأصاب، وواجب عليه أن يفتي بما علم، وإما فاسق يفتي بما يتفق له، مستديما لرياسة أو لكسب مال، وهو يدري أنه يفتي بغير واجب، وإما جاهل ضعيف العقل، ويفتي بغير يقين علم، وهو يظن أنه مصيب، ولم يبحث حق البحث، ولو كان عاقلا لعرف أنه جاهل، فلم يتعرض لما لا يحسن.
حدثني أبو الزناد سراج بن سراج، وخلف بن عثمان البحام، وأبو عثمان سعيد ابن محمد الضراب كلهم يقولون: سمعت عبد الله بن إبراهيم الأصيلي يقول: قال لي الأبهري أبو بكر محمد بن صالح: كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس؟ فقلت له:
يقرأ المدونة، وربما المستخرجة، فإذا حفظ مسائلهما أفتى. فقال لي: هذا ما هو؟
فقلت له: نعم، فقال لي: أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي.
(٦٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 690 691 692 693 694 695 696 697 698 699 700 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال، وبطلان جميع العقود والعهود والشروط إلا ما أوجبه منها قرآن، أو سنة عن رسول الله (ص) ثابته 590
2 الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل 630
3 الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف 642
4 الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل 647
5 الباب السابع والعشرون في الشذوذ 661
6 الباب الثامن والعشرون في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا وتسمية الفقهاء المذكورين في الاختلاف بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم 663
7 الباب التاسع والعشرون في الدليل 676
8 الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض ووقت لزوم الشرائع للإنسان 678
9 الباب الحادي والثلاثون في صفه التفقه في الدين، وما يلزم كل امرئ طلبه من دينه، وصفته المفتى الذين له أن يفتى في الدين، وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام 689
10 الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذين لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه، وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو اثم وحيث لا يلحق 706
11 الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد (صلى الله عليه وآله) أيلزمنا إتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شئ منها أصلا إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصا باسمه فقط؟ 722