وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم، ولا علمه بما علم بمبيح له أن يفتي فيما جهل، وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره، فلو لم يفت إلا من أحاط بجميع العلم. لما حل لاحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتي أصلا وهذا لا يقوله مسلم، وهو إبطال للدين، وكفر من قائله. وفي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم الامراء إلى البلاد، ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين، ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك، لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والاحكام بيان صحيح بأن العلماء، وإن فاتهم كثير من العلم، فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا.
وفي هذا الباب أيضا بيان جلي على أن من علم شيئا من الدين علما صحيحا فله أن يفتي به، وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك، ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثا قد فاته، لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث.
ومن لم يعلم الاحكام على الصفة التي ذكرنا قبل، لكن إنما أخذ المسائل تقليدا، فإنه لا يحل لمسلم أن يستفتيه، ولا يحل له أن يفتي بين اثنين، ولا يحل للامام أن يوليه قضاء ولا حكما أصلا، ولا يحل له إن قلد ذلك أن يحكم بين اثنين، وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يخطئ ويصيب، فليس خطأه بمانع من قبول صوابه، وبالله تعالى التوفيق، فلا يوجد مفت في الديانة وفي الطب أبدا، إلا أحد ثلاثة أناسي: إما عالم يفتي بما بلغه من النصوص بعد البحث والتقصي، كما يلزمه، فهذا مأجور أخطأ وأصاب، وواجب عليه أن يفتي بما علم، وإما فاسق يفتي بما يتفق له، مستديما لرياسة أو لكسب مال، وهو يدري أنه يفتي بغير واجب، وإما جاهل ضعيف العقل، ويفتي بغير يقين علم، وهو يظن أنه مصيب، ولم يبحث حق البحث، ولو كان عاقلا لعرف أنه جاهل، فلم يتعرض لما لا يحسن.
حدثني أبو الزناد سراج بن سراج، وخلف بن عثمان البحام، وأبو عثمان سعيد ابن محمد الضراب كلهم يقولون: سمعت عبد الله بن إبراهيم الأصيلي يقول: قال لي الأبهري أبو بكر محمد بن صالح: كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس؟ فقلت له:
يقرأ المدونة، وربما المستخرجة، فإذا حفظ مسائلهما أفتى. فقال لي: هذا ما هو؟
فقلت له: نعم، فقال لي: أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي.