قال أبو محمد: وهذا باطل، لأنه لو كان كذلك لكان داود مفهما لها، لأنه كان يكون حاكما بأمر أمر به قبل أن ينسخ، ولما كان سليمان أولى بالافهام منه.
وقال بعضهم: حكم بدليل منصوب لم يوافق فيه الحقيقة وحكم سليمان فوافق الحقيقة.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إن داود عليه السلام حكم بظاهر الامر، مثل ما لو حكمنا نحن بشهادة شاهدين عدلين عندنا، وهما في علم الله عز وجل المغيب عنا مغفلان، فأطلع الله تعالى على غيب تلك المسألة سليمان عليه السلام. فأوحى إليه بيقين من هو صاحب الحق فيها، بخلاف شهادة الشهود أو نحو ذلك مما أفهم الله تعالى سليمان فيه بيقين عين صاحب الحق، فهذا وجه تلك الآية الذي لا يجوز خلافه، لبطلان كل تأويل غيره، ولقوله تعالى في الآية نفسها: * (وكلا آتينا حكما وعلما) * فصح أن داود بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى في تلك المسألة، وأن سليمان - عليهما جميعا السلام - حكم فيها بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى فيها بالفهم الزائد لحقيقتها.
وأما ادعاء المرأتين في الولد، ودعاء سليمان عليه السلام بالسكين ليشقه بينهما، فإن سليمان عليه السلام إنما أراد اختبار صبرهما، ولم يهم قط وبشق الصبي، وإنما دعا بالسكين موهما لهما بذلك، وقد يكون الله تعالى أمره بذلك كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام، ولم يرد قط تعالى ذبحه، وإنما أراد اختبار صبر إبراهيم عليه السلام، واختبار صبر المرأتين فقط، ثم نهاه عن شقه، إذ لاح أيتهما أمه. كما نهى إبراهيم عن ذبح إسماعيل فهذا أيضا وجه ظاهر حسن، والله أعلم.
وأما أمر موسى والخضر عليهما السلام، فإن الخضر نبي موحى إليه، ولم يفعل شيئا من كل ما فعل باجتهاد، كما يظن من لا عقل له، وإنما فعل كل ذلك بوحي أوحاه الله إليه. وبيان ذلك نص الله تعالى بأن حكى عنه أنه قال لموسى:
* (وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) * وأما سؤال موسى عليه السلام له عن ذلك فإنما فعله ناسيا لعهده، ولسنا ننكر أن تنسى الأنبياء عليهم السلام، وقد صلى نبينا صلى الله عليه وسلم خامسة ناسيا وسلم من ثلاث ومن اثنين ناسيا. وهذا الذي قلنا هو نص القرآن في قوله تعالى حاكيا عن موسى أنه قال للخضر: * (لا تؤاخذني بما نسيت) *.