أيضا، وإنما أمر أن يقضي بالبينة العدلة عنده، ولا يقدر على أكثر من أن يحكم بالعدالة الظاهرة إليه، وبظاهر العلم عنده، وكما أمر بقبول اليمين من المنكر، وهما شيئان متغايران: أحدهما: بما شهدت به البينة، وألا يقضي على من حلف في قضية ألزم فيها اليمين، فهذا هو الذي ألزم النبي صلى الله عليه وسلم وألزمنا نحن بعده السلام. والثاني: أن يمكن صاحب الحق في علم الله تعالى من حقه، وهذا لا سبيل إلى علمه في كل موضع، فإن حرمنا هذا وحرمنا وفاق العدل عند الله عز وجل.
فلا إثم ولا حرج، لأنه لا سبيل إلى علم ذلك بيقين، ولا كلفناه، وهذا لا يسمى اجتهادا على الاطلاق، ولكنه يقين اتباع ما أمر به عليه السلام من الحكم بالعدول على حسب ما يطيق على معرفته، وهو الظاهر، وبقبول يمين المنكر، ولا سبيل إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في شرع الشرائع، والأوامر عنده واردة متيقنة، ولا إشكال فيها. يعمل خاصها من عامها، وناسخها من منسوخها، ومستثناها من المستثنى منه، علم يقين ومشاهدة في جميع ما أنزل عليه.
وأما الاجتهاد الذي كلفناه نحن، فهو طلب هذه المعاني، ولم نشاهدها كلها فنعلمها لكن نقبلها من الثقات الذين أمرنا الله تعالى بقبول نذارتهم إلى أن يبلغونا إلى الذين شهدوها، وهم ونحن لا نعلم كل ذلك علم يقين.
فإن اعترض معترض بفعله عليه السلام في أخذ الفداء، فنزل من عتابه على ذلك ما نزل. فالجواب: أننا لا ننكر أن يفعل عليه السلام ما لم يتقدم نهي من ربه تعالى له عنه، إلا أنه لا يترك وذلك، ولا بد من أن ينبه عليه.
وأما الوهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقصد بذلك فعل الخير، فلسنا ننكره إلا أنه لا يقر عليه البتة، وهذا لا يجوز أن يكون في شرع شريعة، ولا إيجاب فرض، ولا تحريم، وإنما هو فيما قدره مباحا له، إذ لم ينه عنه قبل ذلك، لكن كفعله بابن أم مكتوم إذ نزلت: * (عبس وتولى) *.
وقد احتج بعضهم ممن أجاز الاجتهاد بالرأي في الدين، بأمر سليمان وداود عليهم السلام: * (إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم) *.
قال أبو محمد: وهذه مسألة اختلف الناس فيها على وجوه، فقوم قالوا:
نسخ الله حكم داود بحكم سليمان عليهما السلام.