المقام «من الرحمة» من فرط رحمتك وعطفك عليهما ورقتك لهما لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما ولا تكتف برحمتك الفانية بل ادع الله لهما برحمته الواسعة الباقية «وقل رب ارحمهما» برحمتك الدنيوية والأخروية التي من جملتها الهداية إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرهما «كما ربياني» الكاف في محل النصب على نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني «صغيرا» ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربتهما لي كقوله تعالى واذكروه كما هداكم ولقد بالغ عز وجل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمها في سلك القضاء بهما معا ثم ضيق الأمر في باب مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع ماله من موجبات الضجر مالا يكاد يدخل تحت الحصر وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كل شيء مشبهة بتربيتهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما وروي يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبوي بلغا من الكبر أني إلي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما قال لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما وري أن شيخا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن ابني هذا له مال كثير وإنه لا ينفق على من ماله فنزل جبريل عليه السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ في أنبه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ فقال * غذوتك مولدا ومنتك يافعا * تعل بما أجني عليك وتنهل * إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت * لسقمك إلا باكيا أتململ * كأني أنا المطروق دونك بالذي * طرقت به دوني وعيني تهمل * فلما بلغت السن والغاية التي * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل * جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك * أنت المنعم المتفضل * فليتك إذ لم ترع حق أبوتي * فعلت كما الجار المجاور يفعل * فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أنت ومالك لأبيك «ربكم أعلم بما في نفوسكم» من البر والعقوق «إن تكونوا صالحين» قاصدين للصلاح والبر دون العقوق والفساد «فإنه» تعالى «كان للأوابين» أي الرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر «غفورا» لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية فعلية أو قولية وفيه مالا يخفى من التشديد في الأمر بمراعاة حقوقهما ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ويدخل فيه الجاني على أبويه دخولا أوليا «وآت ذا القربى» أي ذا القرابة «حقه» توصية بالأقارب إثر التوصية ببر الوالدين ولعل المراد بهم المحارم وبحقهم النفقة كما ينبئ عنه قوله تعالى «والمسكين وابن السبيل» فإن المأمور به في حقهما المواساة المالية لا محالة أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض
(١٦٧)