(ولقد كرمنا بني آدم) قاطبة تكريما شاملا لبرهم وفاجرهم أي كرمناهم بالصورة والقامة المعتدل والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به نطاق العبارة ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده وما قيل من شركة القرد له في ذلك مبنى على عدم الفرق بين اليد والرجل فإنه متناول له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده (وحملناهم في البر والبحر) على الدواب والسفن من حملته إذا جعلت له ما يركبه وليس من المخلوقات شيء كذلك وقيل حملناهم فيها حيث لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم بالماء وأنت خبير بأن الأول هو الأنسب بالتكريم إذ جميع الحيوانات كذلك (ورزقناهم من الطيبات) أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنيعهم وبغير صنيعهم (وفضلناهم) في العلوم والإدراكات بما ركبنا فيهم من القوى المدركة التي بها يتميز الحق من الباطل والحسن من القبيح (على كثير ممن خلقنا) وهم من عدا الملائكة عليهم الصلاة والسلام (تفضيلا) عظيما فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تميز فضلا عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقول المحضة وإنما استثنى جنس الملائكة من هذا التفضيل لأن علومهم دائمة عارية عن الخطأ والخلل وليس فيه دلالة على أفضليتهم بالمعنى المتنازع فيه فإن المراد هنا بيان التفضيل في أمر مشترك بين جميع أفراد البشر صالحها وطالحها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضل في عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله سبحانه إن قيل أي حاجة إلى تعيين ما فيه التفضيل بعد بيان ما هو المراد بالمفضلين فإن استثناء الملائكة عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفراد البشر عليهم لا يستلزم استثناءهم من تفضيل بعض أفراده عليهم قلنا لا بد من تعيينه البتة إذ ليس من الأفراد الفاجرة للبشر أحد يفضل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازع فيه أصلا بل هم أدنى من كل دنئ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى أولئك كالانعام بل هم أضل وقوله تعالى إن شر الدواب عند الله الذين كفروا (يوم ندعو) نصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه قوله تعالى ولا يظلمون وقرئ بالياء على البناء للفاعل وللمفعول ويدعو بقلب الألف واوا على لغة من يقول في أفعى افعو وقد جوز كون الواو علامة الجمع كما في قوله تعالى وأسروا النجوى أو ضميره وكل بدلا منه والنون محذوفة لقلة المبالاة فإنها ليست إلا علامة الرفع وقد يكتفي بتقديره كما في يدعي (كل أناس) من بني آدم الذين
(١٨٦)