الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية «رسول منهم» أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون «فكذبوه» في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر فالفاء فصيحة وعدم ذكره للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم «فأخذهم العذاب» المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا نبذة من ذلك «وهم ظالمون» أي حال التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفران نعم الله تعالى وتكذيب رسوله غير مقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرة عنه وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد وترتيب العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أو لمن سار سيرتهم كافة محاذية لحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة كيف لا وقد كانوا في حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم وما يمر ببالهم طيف من الخوف وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول يحار في إدراك سمو رتبته العقول صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ما أصابهم من جدب شديد وأزمة حصت كل شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرفة والعلهز وهو الوبر المعالج بالدم وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن النظام وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى ولقد جاءهم لأهل مكة قد ذكر حالهم صريحا بعد ما ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل من التحقيق كيف لا وقوله سبحانه «فكلوا مما رزقكم الله» مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته والمعنى وإذ قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كيلا يحل بكم مثل ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه «حلالا طيبا» وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها «واشكروا نعمة الله» واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما أدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهى عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعدو قد تمهدت مباديه وبعدما وقع ما وقع فمن ذا الذي يحظر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى فأخذهم العذاب وهم ظالمون على الأخبار بذلك قبل الوقوع يأباه الصدى لاستصلاحهم بالأمر والنهي وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين
(١٤٦)