كل وقت له مقتض غير مقتضي الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال «قالوا» أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ «إنما أنت مفتر» أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشياطين وأنه وليهم «بل أكثرهم لا يعلمون» أي لا يعملون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا «قل نزله» أي القرآن المدلول عليه بالآية «روح القدس» يعني جبريل عليه السلام أي الروح المطهر من الأدناس البشرية وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل حاتم الجود للمبالغة في ذلك الوصف كأنه طبع منه وفي صيغة التفعيل في الموضعين إشعار بأن التدريج في الإنزال مما تقتضيه الحكم البالغة «من ربك» في إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنية على التلقين المحض «بالحق» أي ملتبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخا وفيه دلالة على أن النسخ حق «ليثبت الذين آمنوا» على الإيمان بأنه كلامه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم وقرئ ليثبت من الإفعال «وهدى وبشرى للمسلمين» المنقادين لحكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتا وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سواهم من الكفار «ولقد نعلم أنهم يقولون» غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء «إنما يعلمه» أي القرآن «بشر» على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه الصلاة والسلام وتحلية الجملة بفنون التأكيد لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على تفوه تلك العظيمة يعنون بذلك جبر الرومي غلام عامر بن الحضرمي وقيل جبرا ويسيرا كانا يصنعان السيف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه قيل عابسا غلام حويطب بن عيد العزي قد أسلم وكان صاحب كتب وقيل سلمان الفارسي وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس بنسبته عليه السلام إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه
(١٤١)