الثانية - قوله تعالى: " والحرمات قصاص " الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة. وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد [حرمة] الشهر الحرام [وحرمة] البلد الحرام، وحرمة الاحرام. والحرمة: ما منعت من انتهاكه. والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع. ف " الحرمات قصاص " على هذا متصل بما قبله ومتعلق به. وقيل: هو مقطوع منه. وهو ابتداء أمر كان في أول الاسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفى (1) له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شئ، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام. والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " (2) [النساء: 58].
وهو قول عطاء الخراساني. قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا.
قلت: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وأخذ الحق من الظالم نصر له. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله