لا ثالث لهما: السعيد والشقى أو المثاب والمعاقب فالذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجمالي لا يتبين تفصيله إذ لا طريق عقلا إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى: " وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " (التوبة: 106)، وقال تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " (النساء: 99).
والآيات - كما ترى - تشتمل على العفو عنهم والتوبة عليهم ولا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، وعلى عذابهم ولا عذاب على من لا تكليف له، غير أنك عرفت أن الذنب وكذا المغفرة والعقاب والثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلق بمخالفة التكليف المولوي أو العقلي، ومنها ما يتعلق بالهيئات النفسانية الرديئة وأدران القلب التي تحجب الانسان عن ربه، وهؤلاء وإن كانوا في معزل من تعلق التكليف المتوقف على العقل لكنهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس وأستار القلوب التي يحتاج التنعم بنعيم القرب، والحضور في ساحة القدس إلى إزالتها وعفوها والستر عليها ومغفرتها.
ولعل هذا هو المراد مما ورد في بعض الروايات: " إن الله سبحانه يحشرهم ثم يخلق نارا ويأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنة ومن أبى أن يدخلها دخل النار " وسيجئ ما يتعلق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، وقد مر بعض الكلام في سورة النساء.
ومن استعمال العفو والمغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " (المائدة: 3)، ونظيره ما في سورة الأنعام، وقوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء: " وإن كنتم مرضى أو على سفر - إلى أن قال - فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا " (النساء: 43)، وقوله في حد المفسدين في الأرض: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " (المائدة: 34)، وقوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين: " ما على المحسنين