زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب إني وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإني خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " (مريم: 6).
إنما حثه على هذا الدعاء ورغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها وعبادتها، وما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، وخصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: " وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " (آل عمران: 38).
فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه وقد نال منه الشيب، وانهدت منه القوى، وكذلك امرأته وقد كانت عاقرة في سنى ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضى ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الإلهية والاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه وذكر له ما يثور به الرحمة والحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية والمسألة منذ وحداثة سنه حتى وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، ولم يكن بدعائه شقيا، وقد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه وليهب له وارثا رضيا.
والدليل على ما ذكر نا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد والحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحى إليه بالاستجابة بقوله: " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " (مريم: 9) فإنه ظاهر في أنه (ع) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله وأخذ يتعجب من غرابة المسألة والاجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد وسأل لنفسه عليه آية فأجيب إليها أيضا.
وكيف كان فالذي استعمله عليه السلام في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذي ملكه، ولذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه