لكنها جميعا قوانين كلية ضرورية إلا أنها ضرورية لا في أنفسها، وباقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة واللزوم، وإذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى وبأمره وإرادته فمن البين أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدى نفسه، ولا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهى إليه تعالى من كل جهة ويفتقر إليه في عينه وأثره، فافهم ذلك.
فمن المحال أن يكون العقل الذي يحكم بما يحكم بإفاضة، الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التي إنما وجدت أحكامها وآثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم والاقتضاء اللذين هو المبقى لهما القاهر الغالب عليهما، وبعبارة أخرى: ما في الأشياء من اقتضاء وحكم إنما هو أثر التمليك الذي ملكه الله إياها، ولا معنى لان يملك شئ بالملك الذي ملكه الله بعينه منه تعالى شيئا فهو تعالى مالك على الاطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلا.
فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أي فعل أراد لم يكن عليه ضير، ولا منعه مانع من عقل أو خارج إلا أنه تعالى وعدنا وأوعدنا بالسعادة والشقاء وحسن الجزاء وسوء الجزاء، وأخبرنا أنه لا يخلف الميعاد وأخبرنا من طريق الوحي أو العقل بأمور ثم ذكر أنه لا يقول إلا الحق فسكنت نفوسنا به واطمأنت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه، قال تعالى: " إن الله لا يخلف الميعاد " (آل عمران: 9)، (الرعد: 31) وقال تعالى: " والحق أقول " (ص: 84) وفي معناهما الضرورة العقلية في أحكامها.
وهذا الذي بينه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنه تعالى هو المالك على الاطلاق له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " (الأنبياء: 23)، وهذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلق العلم به لاحد من خلقه فإن كل ما نعلمه من أسمائه فهو مما يحكيه مفهوم من المفاهيم ثم نشخص بنسبته آثاره في الوجود وأما الآثار التي لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهى لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها وإن شئت فقل: إنه اسم لا يصطاد بمفهوم، وإنما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعا من الإشارة.