العقلية الحقة من الأمور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها وان سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها، ثم تثير الأحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى وتتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، وان كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالامر فلا تضرها إلا أذى، كما أن من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم: ان الميت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضر شيئا، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيلة ان تصور للنفس صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، وربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.
فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الايمان والتصديق دائما، غير أنها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة، ولذلك قيل: إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
وقد ظهر من هنا ومما مر سابقا أن إبراهيم عليه السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل انما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وان كان لا ينفك عن الامر المحسوس الذي هو قبول الاجزاء المادية للحياة بالاجتماع والتصور بصورة الحي، فهو عليه السلام انما كان يسأل حق اليقين.
قوله تعالى: قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا، صرهن بضم الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور إذا قطع أو امال، أو بكسر الصاد على القراءة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدل على تضمين معنى الإمالة. فالمعنى: اقطعهن مميلا إليك أو أملهن إليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.
وكيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير " الخ "، جواب عن ما سأله إبراهيم