الغالبون " الصافات - 173، وقوله تعالى: " والله غالب على أمره " يوسف - 21.
وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء ماءا فسالت أودية بقدرها (الخ)، مسوقة لبيان بقاء الحق وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع، والمضادة كما في الحق والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات فإن المعنى، ونعني به الموجود المجرد عن المادة، مقدم على المادة غير مغلوب في حال أصلا، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات والمجردات، وقد قال تعالى: " وعنت الوجوه للحي القيوم " طه - 111، وقال تعالى: " له ما في السماوات والأرض كل له قانتون " البقرة - 116، وقال تعالى: " وان إلى ربك المنتهى " النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كل شئ، وهو الواحد القهار.
وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت انها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتكي عليه الاجتماع الانساني الذي به عمارة الأرض، وباختلاله يختل العمران وتفسد الأرض، وهي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الانسان، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن والاجتماع التعاوني، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه وأصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الأرض ومصونيتها عن الفساد، فينبغي ان تحمل الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.
وبعبارة أخرى واضحة: القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضم ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقويهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوما، وأكل بعضهم بعضا، والدفع الذي تعمر به الأرض ويصان