ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له، وعند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.
كذلك نظام الاجتماع الانساني لو لم يقم على أساس التأثير والتأثر، والدفع والغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، ولم يتحقق حينئذ نظام وبطلت سعادة النوع، فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، وهو الغلبة وتحميل الإرادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه ويلائمها وهكذا، وبذلك تنقطع الوحدة من بين الاجزاء وبطل الاجتماع، وهذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر: أن الأصل الأول الفطري للانسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، وأما التعاون والمدنية فمتفرع عليه وأصل ثانوي، وقد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة " البقرة - 213.
وفي الحقيقة معنى الدفع والغلبة معنى عام سار في جميع شؤون الاجتماع الانساني وحقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الانسان، ودفعه عما يزاحمه ويمانعه عليه، وهذا معنى عام موجود في الحرب والسلم معا، وفي الشدة والرخاء، والراحة والعناء جميعا، وبين جميع الافراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنما يتنبه الانسان له عند ظهور المخالفة ومزاحمة بعض الافراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات والميول ونحوها، فيشرع الانسان في دفع الانسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه ومعلوم أن هذا على مراتب ضعيفة وشديدة، والقتال والحرب إحدى مراتبه.
وأنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع والغلبة من الأصول الفطرية عند الانسان أصل فطري أعم من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الانسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه، لا دفاع مشروع على الحق لا غيره، فإن أعمال الانسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه سابقا فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن والكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.
وهذا الأصل الفطري ينتفع به الانسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره وتمالك ما بيده تغلبا وبغيا، وينتفع به