(بيان) سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصة بقوله تعالى: وانك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصة السابقة أعني: قصة طالوت: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل ان يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معا.
وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: ان الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي ان يختم بها بلية القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية بارسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الاسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأصول قوانينه؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على ايمان القلوب، والايمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.
والذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الأمور على سنة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.