والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الانسان وبقائه إلا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام، قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات - 56، فلو أمرهم بشئ مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة.
فالمراد بقوله: قدموا لأنفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى ابقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى أنفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس - 12.
وبهذا الذي ذكرنا يتأيد: ان المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " النبأ - 41، وقال تعالى أيضا: " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا " المزمل - 20، فقوله تعالى: وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه " الخ "، مماثل السياق لقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " الحشر - 18، فالمراد (والله أعلم) بقوله تعالى:
وقدموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: واتقوا الله، التقوى بالاعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنكم ملاقوه " إلخ " الامر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الامر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الأنفال - 24، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشر المؤمنين، كما صدر آية الحشر بقوله: يا أيها الذين آمنوا.