شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٢٠ - الصفحة ١٣٨
الحمد لله الذي له الخلق والامر، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه ولو كان فردا، ولم يعزز الله ولى الشيطان وحزبه وإن كان الأنام كلهم معه، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل المصعب رحمه الله، فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكرم العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن قتله كان عن شهادة، وإن الله تعالى جعل ذلك لنا وله ذخيرة. إلا إن أهل العراق، أهل الغدر والنفاق، أسلموه و باعوه بأقل الثمن، فإن يقتل المصعب فإنا لله وإنا إليه راجعون! ما نموت جبحا كما يموت بنو العاص، ما نموت إلا قتلا، قعصا (1) بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فإن تقبل الدنيا على لا آخذها أخذ الأشر البطر (2)، وإن تدبر عنى لا أبكى عليها بكاء الخرف المهتر، وإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير لخلفا. ثم نزل.
وروى الزبير بن بكار قال: خطب عبد الله بن الزبير بعد أن جاءه مقتل المصعب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بإمامي عثمان، فعظمت مصيبته، ثم أحسن الله وأجمل، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بأبي الزبير، فعظمت مصيبته، فظننت إني لا أجيزها، ثم أحسن الله وسلم، واستمرت مريرتي، وهل كان مصعب إلا فتى من فتياني! ثم غلبه البكاء فسالت دموعه وقال: كان والله سريا مريا، ثم قال:

(1) القعص: الموت السريع.
(2) الأشر والبطر كلاهما بمعنى واحد.
(١٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 ... » »»
الفهرست