أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحت، لفزت. ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت، فقد صرت كالمنخنق بين السماء والأرض، لا أرقي بيدين، ولا أهبط برجلين، فعظني بعظة أنتفع بها يا بن أخي. فقال ابن عباس: هيهات أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا تشاء أن تبلى إلا بليت (1)، كيف يؤمر برحيل من هو مقيم؟ فقال عمرو على حينها، من حين ابن بضع وثمانين تقنطني من رحمة ربى. اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك، فخذ منى حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات أبا عبد الله!
أخذت جديدا وتعطى خلقا، قال عمرو: ما لي ولك يا بن عباس! ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها (2)!
* * * وروى أبو عمر في كتاب الاستيعاب أيضا عن رجال قد ذكرهم وعددهم: إن عمرا لما حضرته الوفاة، قال له ابنه عبد الله وقد رآه يبكى: لم تبكي؟ أجزعا من الموت؟
قال: لا والله، ولكن لما بعده. فقال له: لقد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله، وفتوحه بالشام، فقال له عمرو: تركت أفضل من ذلك: شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق، ليس منها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول أمري كافرا، فكنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه، فلو مت حينئذ وجبت لي النار، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه، كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت منه عيني قط، فلو مت يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو! أسلم وكان على خير، ومات على خير أحواله، فسرحوا له بالجنة، ثم تلبثت بعد ذلك بالسلطان وبأشياء، فلا أدرى