جبينه ليرشح عرفا، فقال واحد لآخر: ما له لا يتكلم؟ أتراه يهاب النطق! فوالله إنه لخطيب.
فما تراه يهاب؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب، فهو يقطع بذلك.
فابتدأ فقال: الحمد لله الذي له الخلق والامر، ملك الدنيا والآخرة، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ألا إنه لا يذل من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا، ولا يعز من كان الباطل معه، وإن كان ذا عدد وكثرة. ثم قال: أتانا خبر من العراق، بلد الغدر والشقاق، فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله، فأما الذي أحزننا من ذلك فأن لفراق الحميم لذعة ولوعة، يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر. وأما الذي سرنا منه، فأن قتله كان له شهادة، وإن الله جاعل لنا وله في ذلك الخيرة. ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الأثمان وأخسرها، وأسلموه إسلام النعم المخطمة (1) فقتل، وإن قتل لقد قتل أبوه وعمه وأخوه (2)، وكانوا الخيار الصالحين، وإنا والله ما نموت حتف آنافنا، ما نموت إلا قتلا قتلا، وقعصا (3) قعصا، بين قصد (4) الرماح، وتحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان (5)، والله ما قتل منهم رجل في جاهلية ولا إسلام، وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا على لا آخذها أخذ اللئيم البطر، وإن تدبر عنى لا أبكى عليها بكاء الخرف (6) المهتر. ثم نزل.
* * *