ومن ذلك قول إبراهيم على ما حكاه تعالى عنه في قوله: " إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " (1)، فطلب منه في مبدأ الامر السبب في عبادته الصنم والعلة لذلك، ونبهه على أن عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا قبيحة، ثم لم يقل له: إني قد تبحرت في العلوم، بل قال له: قد حصل عندي نوع من العلم لم يحصل عندك. وهذا من باب الأدب في الخطاب. ثم نبهه على أن الشيطان عاص لله، فلا يجوز اتباعه، ثم خوفه من عذاب الله إن اتبع الشيطان، وخاطبه في جميع ذلك بقوله: " يا أبت " استعطافا واستدراجا، كقول علي عليه السلام: " يقول لك ابن خالك "، فلم يجبه أبوه إلى ما أراد، ولا قال له:
" يا بني " بل قال: " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم "، فخاطبه بالاسم، وأتاه بهمزة الاستفهام المتضمنة للانكار، ثم توعده، فقال: " لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ".
قالوا: ومن هذا الباب ما روي أن الحسين بن علي عليهما السلام كلم معاوية في أمر ابنه يزيد، ونهاه عن أن يعهد إليه، فأبى عليه معاوية حتى أغضب كل واحد منهما صاحبه، فقال الحسين عليه السلام في غضون كلامه: أبي خير من أبيه، وأمي خير من أمه. فقال معاوية: يا بن أخي، أما أمك فخير من أمه، وكيف تقاس امرأة من كلب بابنة رسول الله (2) صلى الله عليه! وأما أبوه فحاكم أباك إلى الله تعالى، فحكم لأبيه على أبيك.