يحمل على رأسه بالقطع والكسر، لا يرد ما أعطى; بالنهار صائم يحمل على رأسه، وبالليل قائم يصلي، يمشي حافيا حتى تقطعت رجلاه، يبيت في المساجد يتخللها كي لا يفطن به. فلم يزل كذلك يعمل ويعبد ربه سنين. وأمير المؤمنين لما وقف على أمره كتب في جميع الآفاق إلى العمال في كل بلدة أن يطلب وتوضع عليه العيون; فلم يوقف على أمره. قال: فمرض في بعض المساجد وتغيرت حاله. فلما اشتدت به العلة دخل بعض الخانات بالبصرة فاكترى غرفة وألقى نفسه على بارية. فلما أيس من نفسه دعا صاحب الخان فناوله خاتمه ورقعة مختومة فقال: يا هذا! إذا أنا قضيت نحبي فاخرج إلى صاحبكم - يعني الوالي - فأره خاتمي وعرفه موضعي وناوله هذه الرقعة. فمات رحمه الله، فلما قضى سجاه وخرج نحو باب الأمير، فنادى: النصيحة، فأدخل، فأراه الخاتم فلما نظر إليه الوالي عرفه، وقال: ويحك، أين صاحب الخاتم؟ قال: في الغرفة في الخان ميت. وناوله الرقعة مختومة مكتوبا عليها: لا يفكها إلا المأمون أمير المؤمنين. فركب الأمير حتى أتى الخان، وحوله إلى قصره وطلى عليه الكافور والمسك والعنبر ولفه في قباطي مصر وحمله في الماء إلى المأمون. وكتب إليه يعرفه قصته وأنه وجده في غرفة على بارية في بعض الخانات، ما تحته مهاد، ولا عنده باكية، مسجى مغمض العينين مستنير الوجه طيب الرائحة.
قال: وبعث إليه خاتمه ورقعته. فلما وصل كتابه إلى أمير المؤمنين، وأدخل [علي] عليه قام فكشف عن وجهه وانكب عليه يقبله ويبكي.